الماءُ والطين
لا تختلفُ العناصرُ الرئيسةُ المكونةُ للبشرِ أينما كانوا، فلا يختلفُ الشرقيُّ عن الغربي ولا الشماليُّ عن الجنوبي، إذاً لم تَختلفُ سلوكياتهم؟
مررتُ بمدرسةٍ كنتُ تركتها منذُ ثمانيةَ وثلاثينَ سنةٍ تقريباً والتي أصبحتْ إحدى مدارسِ السنوات المتوسطة. عدى لوعة وحرقة تذكري لأيامِ الصبا وأصدقائيَ القدامى والمديرَ الذي كان يصدنا عن تسلقِ السورِ والهرب من الحصص، سرني مظهرُ الطلبةِ الذين بدوا أكثرَ عافيةً مما كنا فيه، شيءٌ لم يتغير وهو التصرفُ الإجتماعي. بعد أربعة عقودٍ من توفرِ المعرفة والتعليم مشت أمامي مناظرُ للطلابِ رأيتُ فيها كل طالبٍ يجلسُ بيده كتابٌ، يقرأهُ بصمتٍ على كرسيٍ بجانبهِ أصيصُ وردٍ في شمسِ تشرينَ الهادءة، وإن احتاجَ الأكلَ أو الشربَ فهو يلقي ما يترك في الأماكنِ المخصصة لها، وأنَّ مرشدا خارجَ المدرسةِ يصححُ تلكَ التصرفاتِ التي كنا نقومُ بها ذاكَ الزمن. رأيتُ طلاباً سعداءَ ولكن بقيَ المطعمُ الصغيرُ، عبر الشارعِ، الذي اجتمعَ أمامه الطلابُ والسلوك والتصرف كما نحنُ قبلَ حوالي الأربعينَ سنةً أمامَ بائعِ الفولِ اليماني.
أحدُ الأمثالِ الشعبية التي أتذكرها من أمي هو ”الرمح من ركزته“ وهي تعني أن ما نبني عليه لا بدَّ أن يكون قوياً وصلباً من المرةِ الاولى فقد لا تكون هناك فرصٌ للتقويم وخاصةً تلك التي ترتبط بالبشر. كنا في المدرسة جيلاً بعيد جيل وفي البيوت ولم نبذل جهداً للإعتناء بالناتجِ البشري كمن يصنع الآلةَ بنفسِ الطريقة كلَّ مرةٍ ولكن يتوقع نتائجَ مختلفة.
يكبرُ الإنسانُ فيحكم تصرفاتِهِ قانونُ الضبطِ الذاتي الذي يضعهُ بين متوازيين هما الخوفُ والرغبة وهنا يكون حاضراً سُلطة الربِّ والحاكم، فإن غابت إحداهما فلابدَّ من وجودِ الأخرى، كما في المجتمعات الغير متدينة ولكنها تلتزمُ النظامَ العام. الأمثلةُ التي يمكن سوقها في مخالفةِ القانون لا تعد ولا يلزمك سوى ساعةً واحدةً من الملاحظة وستعرف أن التصرف السليم والالتزام بالنظامِ النافعِ ليس موجوداً سوى في الكتبِ أو شيْئًا نشاهدهُ في أماكنَ أخرى ونحلمُ أن نكونَ مثلهم ولو بعد أجيال.
كلُّ الرؤى الجميلةِ الحالمة تحتاجُ إلى مساندةٍ اجتماعية يكون فيها العنصر البشري الفاعلَ الأساسي الذي لابد لبانيهِ أن يكونَ حاذقاً أو ذاك السهمِ الذي لابد لراميهِ أن يكون صائباً من الرميةِ الأولى، من يدري لَعلَّ الفرصَ الماديةَ ومقوماتِ التقدم لا تتوفر مرةً ثانية. توصيفُ المشكلةِ والتذمر لا يجب أن يكون جل ما يقوم به الفرد والمجتمع ولكن وضعُ الخطوات للرقي بالفرد والمجتمع هو لبُّ الرؤى وإلا يصح المثلُ العربي ”يداكَ أوكتا وفوكَ نفخ“.