عواقب التربية العنفية
خلصنا في المقالة السابقة إلى أن لجوء الآباء والمربين إلى القسوة والعنف في التعامل مع الأبناء تحت شعار التربية والتهذيب الأخلاقي، هو أسلوب عقيم وغير مجدي في تقويم سلوك الأبناء. وإذا ما نجحت هذه الوسيلة في بعض الحالات فإنها تظل وسيلة عقيمة في أغلبها، فنتائج الضرب عادةً ما تكون مؤقتة ولا تدوم عبر الأيام، بل له عواقبه الوخيمة على الأبناء بدنيّاً وعقليّاً ونفسيّاً.
إن استخدام العنف ضد الأطفال هو من السلوكيات الشائعة والمتوارثة في بعض المجتمعات/الأسر. فالألفاظ الجارحة، كما هي الأفعال القاسية، تُخلِّف جروحاً غائراً في النفس قد يصعب اندمالها مع مرور الزمن. فالأطفال حين يكبرون لا ينسون سلوك الأبوين معهم في الصغر، وربما يعيدون استخدام نفس الأساليب العنفية مع أولادهم حين يصبحون آباء في المستقبل.
ولعله من المهم التأكيد بأن القسوة والعنف الذي يتعرض له الطفل يتسبب في تحطيم شخصيته، ويفقده الثقة في نفسه، ويورثه كره الذين يمارسونه معه. وعلى سبيل المثال فإن ”العقاب بالضرب يؤدي إلى إصابة العلاقة بين الأم والطفل بالفتور والضعف. فمن الطبيعي أن يقل الحب تجاه الإنسان الذي يضربك، والطفل يشعر بخلل في المودة نحو الأم؛ على اعتبار أنها تسبب له الأذى والألم، وبالتالي تضعف الروابط القديمة القوية بينهما، وتقل متانة الروابط مع العقاب والحرمان من الحنان وعاطفة الأمومة. والبديل هو محاولة الأم تحويل سلوك الطفل بطريقة غير الضرب، عن طريق لفت نظره إلى موضوع آخر، وتحاول أن تنزل إلى مستوى تفكيره، حتى تعرف كيفية التعامل مع المواقف الخاطئة دون عقاب، فهذه الطريقة تقوي من شخصية الطفل، وتؤدي إلى زيادة ثقته بنفسه، دون اتباع أساليب الترهيب والقسوة والضرب والعقاب المستمر“. [1]
إن الأطفال الصغار كالعجينة التي يمكن تشكيلها. لذلك كان من الضروري تصحيح سلوك الأبناء عن طريق التوجيه بالطرق التربوية الصحيحة، ومحاولة إقناعهم بالأسلوب الحواري، فمن خلال عملية الإقناع يمكن التأثير في اتجاهاتهم وميولهم وسلوكياتهم. غير أن بعض الآباء لا يعرفون غير لغة الضرب في التعامل مع الأبناء، عوضاً عن إتباع الأسلوب الحواري والتشاوري، وإعطائهم الفرصة للتعبير عن آرائهم، فبالحوار يمكن تطوير مهارات الطفل، وتنمية معارفه ومعلوماته وثقافته، وكل ما ينمي حواسه وجسده وعقله.
إن إهمال الأساليب الحوارية في التعامل مع الطفل، وإتباع أساليب الترهيب والقسوة والضرب والعقاب المستمر معه، يوّلد في نفسه الكراهيةً تجاه من ضربه، لأن الأساليب العنفية "تقتل المشاعر الإيجابية المفترض أن تجمع بينهما وتقربهما من بعض، ويجعل العلاقة بين الطفل وضاربه علاقة خوف لا احترام وتقدير، إلى جانب أنّه ينشئ أبناء انقياديين لكل من يملك سلطة وصلاحيات أو يكبرهم سناً أو أكثرهم قوة، وهذا الانقياد يضعف الشخصية لدى الأبناء، ويجعلهم شخصية أسهل للطاعة العمياء، لا سيما عند الكبر مع رفقاء السوء. كما يقتل التربية المستندة على الاقتناع وبناء المعايير الضرورية لفهم الأمور، والتمييز بين الخطأ والصواب والحق والباطل، ويلغي الحوار، والأخذ والعطاء في الحديث والمناقشة بين الكبار والصغار، ويُضيّع فرص التفاهم وفهم الأطفال ودوافع سلوكهم، ونفسياتهم، وحاجاتهم.
كما يفقر الضرب الطفل ويحرمه من حاجاته النفسية للقبول، والطمأنينة، والمحبة، ويعطيه أنموذجاً سيئاً للأبناء ويحرمهم من عملية الاقتداء، ويزيد حدة العناء عند غالبية الأطفال، ويجعل منهم عدوانيين، وقد يضعف الطفل ويحطم شعوره المعنوي بقيمته الذاتية؛ فيجعل منه منطوياً على ذاته خجولاً لا يقدر على التأقلم والتكيف مع الحياة الاجتماعية. كما يبعده عن تعلم المهارات الحياتية من ”فهم الذات“، و”الثقة بالنفس“، و”الطموح“، و”البحث عن النجاح“، ويجعل منه إنساناً عاجزاً عن اكتساب المهارات الاجتماعية، فيصعب عليه التعامل مع الآخرين أطفالاً كانوا أم كباراً". [2]
إن الحقيقة التي يجب أن تقال في هذا الشأن هي أن العنف، واللجوء إلى الضرب في العلاقة مع الطفل، غالباً ما تؤدي به إلى الانعزال، والتشتت الذهني، والابتعاد عن الاستقامة والسلوك السوي. فالعنف لا ينشئ إلا إنساناً مزدوج الشخصية، جباناً، يطيع رهبة وخوفاً من العقاب، لا رغبة وإخلاصاً وحباً في العمل. ناهيك بأنه يغرس في نفوس الصغار العقوق، ويصرفهم عن التوجيه التربوي الصحيح، ويدفعهم إلى التمرد والجرأة على الوالدين ومخالفتهما، ويجلب على الآباء أقسى ألوان العقوق والعصيان والتمرد. وربما يجنح بهم نحو الانحرافات الأخلاقية والاجتماعية، والميل إلى الموبقات وارتكاب الجرائم حين الكبر، وكل ذلك بسبب ما تعرضوا له من معاملة سيئة وضرب مبرح في مراحل التنشئة.
”ويعتبر اللجوء إلى الضرب من أدنى المهارات التربوية وأقلها نجاحاً، حيث يعالج ظاهر السلوك ويغفل أصله، ولذلك فنتائج الضرب عادةً ما تكون مؤقتة ولا تدوم عبر الأيام، فهو لا يصحح الأفكار، ولا يجعل السلوك مستقيماً، بل يقوي دوافع السلوك الخارجية على حساب الدافع الداخلي الذي هو الأهم دينياً ونفسياً، فهو يبعد عن الإخلاص ويقرب من الرياء والخوف من الناس، فيجعل الطفل يترك العمل خوفاً من العقاب، ويفعله من أجل الكبار، وكلاهما انحراف عن دوافع السلوك السوي الذي ينبغي أن يكون نابعاً من داخل الطفل اقتناعاً، وحباً، وإخلاصاً، وطموحاً، وطمعاً في النجاح وتحقيق الأهداف، وخوفاً من الخسارة الذاتية. وقد يدفع الضرب الطفل إلى الجرأة على الأب، والتصريح بمخالفته، والإصرار على الخطأ.“ [3]
إن النتائج السلبية التي تتجلى على أرض الواقع نتيجة إتباع الأساليب العنفية والقاسية في تربية الأبناء تستدعي المراجعة من قبل الآباء والمربين، وأخد العبرة من تبعاتها وتداعياتها. فهي ليست أفضل أو أكثر نجاحاً من أساليب الرفق واللين في تحقيق النتائج المرجوة، والغايات المؤملة. فالتربية الصحيحة لا تتأسس على أساليب التحقير والإهانة والترهيب والقسوة والضرب والعنف والعقاب المستمر، بل تتأسس بإتباع أساليب الرفق واللين والصفح والحوار والتشاور.
وحسب قول أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، الدكتور أحمد طه ريان، بإن ”الإسلام يأمر كل من كان في عنقه مسؤولية التوجيه والإرشاد والتربية، خاصة الآباء والأمهات، بأن يتحلوا بالأخلاق العالية والمعاملة الرحيمة، حتى ينشأ الأبناء على الاستقامة ويتربوا على استقلال الشخصية. والطفل لابد أن يكون له قدوة في والديه حتى يتشرّب منهما مبادئ الإسلام وقيمه“. [4]
إن الممارسات العنفية التي تصدر من البعض ربما تكون في الأساس موروثة بسبب الأخطاء التربوية التي مورست معهم وعاشوها أطفالاً صغاراً داخل أُسرهم خلال مراحل التنشئة. لذلك فإن من مسؤولية الآباء إحسان تربية الأبناء، وتأديبهم بالتي هي أحسن منذ نعومة أظفارهم، وتعليمهم وتثقيفهم وغرس القيم النبيلة في نفوسهم وهم أطفالاً صغاراً. فالأطفال دائماً ما يقلدون آبائهم ويقتدون بهم، سلباً كان ذلك أو إيجاباً. وعلى هذا الأساس فإن التربية القويمة للطفل دينياً واجتماعياً وأخلاقياً تبدأ من داخل الأسرة، فالوقاية من الانحرافات المستقبلية لا تكون إلا بالتأديب الواجب والرعاية الضرورية، حيث من واجب الآباء تعليم أبنائهم قواعد الإيمان، وتدريبهم على الورع والتقوى، وتأديبهم على مكارم الأخلاق.