قبلَ كانون
كما وعدَ جاء. زارني سامرُ الليلِ وقالَ خذ الثالثة، لابدَّ أنك تذكر ما يُفرح ولو مرةً! هذه هي ثالثةُ الأثافي والرابعةُ يكتملُ النصابُ حتى يصلَ كانون، عندها نقلبُ الصفحةَ ونحكي غيرَ ذكرى العلقم، لكن هاتِ ما عندك. قال أنا مثلَ شجرِ الأثلِ لا يموتُ مهما قلَّ الماءُ فلا تبتئس. اضطرَّ أبي أن يودعني عند أحدِ أقاربي لضيقِ ذاتِ اليد ولم أبلغ التاسعة. كان الرجلُ يتقلبُ بين خشونةِ الطباعِ كثيراً واعتدالها أحياناً. منتهى الحماقةِ عندَ الصغيرِ الذي لا يفقه مكنوناتِ الكبارِ ولكن وما حيلةُ المضطرِ إلا ركوبها.
سافرنا إلى أحدِ البلدانِ في قطار. كان القطارُ مزدحماً والرجلُ يحتاجُ لمساعدةٍ وأنا أحملُ حقيبةَ السفرِ، طفلٌ لم يشتد عودي. في بلادنا كثيرٌ من الكبارِ لا يحترمون كثيراً من الصغار. تركتُ الحقيبةَ، واصلتُ السيرَ نحو مقعدٍ شاغر واجلسته. سألني عن الحقيبةِ قلت له الآن أحضرها. خاف ألا تكونَ هناكَ عندما أعود فبدأَ يوبخني أمام الرجال. تمنيتُ أن أمي كانت عاقراً بي ولم تلدني، قتلني بسيفٍ صَدِئ.
نلتَ مني يا صاحِ، هذه مؤلمة. أشار لي بأن انتظرهُ يكمل. قال نسيتُ وكما كلُّ الصغارِ لا أستطيع أن أتحدى الحياة. نزلنا في المحطةِ واستأجرنا مكاناً نقيمُ فيه قبلَ أن نعود. صَاحَبنَا رجلٌ أشيب وكان ودوداً لنا. بدأ قريبي يذكرُ أحاديثَ الرحلةِ وذكرى القطار. ظننته سيقول عني ما عانيتُ في زحمةِ الحياة ولكنه بدلاً من ذلك قال أتدري ما فعلَ الولدُ الأبله؟ وراحَ يقرأُ من قاموسِ القسوةِ والاحتقارِ ما لا يحتمله الكبار، فكيف بالصغار! لم أبكِ خوفاً من أن يهزمني ولكن بكى الرجلُ الغريبُ ومسحَ على رأسي وقال إنني ولدٌ طيب وقوي إذْ فعلتُ ما فعلت. آلمكَ هذا؟ قال صاحبي عندما لامَسَتْ يدُ الغريبِ رأسي بَكيتُ حتى كادت نفسي أن تخرج وسَمِعَ النشيجَ من حولي من الناس. وددتُ لو كانَ لي قبراً وأرقدَ فيه.
صاحبي، هل يذكرُ قريبكَ ما فعلَ ويتلوَ بيان الندامة؟ قال لا، ولكن الطفلَ الذي كبرَ يذكر، ويتأملُ في نواميسِ الكونِ أن الذي استصغرَ النفسَ العزيزةَ لا بدَّ أن يقفَ بين يدي الرب. أما أنا فانقلبَ اليأسُ أملاً والضعفُ قوة والعذابُ راحة.
الحمد لله يا صاحبي. أنا في انتظارِ ليلِ كانون الطويل ولكن إن كنتَ لا تستطيعَ أن تطفأَ ثورةَ الحزنِ إنك لابدَّ قادرٌ على أن تُخفضَ ضجيجه. تمر علينا حوادثُ لا نرى محاسنها ونتائجها حينها مثلَ النارِ في الحقل الهش، تجعلُ الأرضَ أخصبَ وما يأتي من النباتِ أصلب. ربما صدق طرفة بن العبد إذ قالَ:
وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً
على المرءِ من وقعِ الحسامِ المهندِ
لكن من الصوابِ أيضاً أن ما لا يقتلنا من المحنِ يجعلنا أقوى
تصبحونَ على خير