آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 10:22 م

مواجهة التطرف

مهدي صليل
مدخل

بعد طول انتظار يعود سماحة الشيخ حسن الصفار إلى الخطابة في شهر محرم، فقد كان جمهوره العريض في شوق كبير إلى خطابه المميز، الذي يضع النقاط على الحروف، بأسلوب بارع مؤثر.

هذه السنة «1439 هـ » انتقل سماحة الشيخ بخطابه إلى مرحلة جديدة، يمكن أن نطلق عليها «مرحلة البحث العلمي»، فمن يجلس تحت منبره يتأكد أنه في إحدى قاعات جامعة مرموقة، فهو أمام منهج جديد في معالجة القضايا الكبرى على مستوى الأمة الإسلامية، فقد بحث موضوع التطرف الديني في تسع محاضرات مشبعة بالآراء والمعلومات ومعالجة أسباب وجذور هذه الظاهرة التي غزت العالم وغيرت كثيراً من معادلاته.

واللافت في أبحاث سماحته أنها لم تصل إلى حد الجفاف أو النظرية المجردة المملة للمستمع، فخبرة سماحة الشيخ في الخطابة وتفاعله مع الواقع، تمكنانه من المراوحة بين البحث والنزول للواقع، بحيث تجعل المستمع يتفاعل مع المواضيع المطروقة دون أن تشعره بالملل من طبيعة البحث العلمي أو عمقه، فهو يشعر بملامستها للواقع المعاش، والمعاناة اليومية.

وقبل أن أستعرض موجز أفكار سماحة الشيخ في مواجهة التطرف، أشير إلى ضرورة كتابة هذه المحاضرات وتقديمها لمفكري العالم الإسلامي كدراسة جادة، وخارطة طريق لمواجهة التطرف، فما كتبته هنا مجرد أفكار موجزة لا تغني عن الاستماع إلى المحاضرات.

أهمية التشخيص

لا يمكن لأي مصلح اجتماعي أن ينجح في مهمته دون أن يكون قادراً على تشخيص الداء ووصف الدواء، وقد وُفق سماحة الشيخ  إلى حد كبير  في المهمتين، ساعده في ذلك عدة عوامل، يلحظها كل من عايشه عن قرب:

أولاً: الاطلاع الواسع على مجريات الأحداث، بصورة دائماً، فهو مواكب لأحداث الساعة، من خلال متابعته للأخبار والتحليلات السياسية، وقراءته للجرائد، ومقالات كتاب الرأي.

ثانياً: الحضور الاجتماعي المباشر، والتفاعل مع الأحداث اليومية، من خلال لقاءاته واتصالاته اليومية بمختلف الشخصيات، والتشاور مع المهتمين بالشأن العام، وإبداء رأيه في الأحداث والقضايا اليومية.

ثالثاً: الاطلاع على آخر الأبحاث العلمية والفكرية، والتواصل مع المفكرين، ومناقشتهم في سبل تطوير أدوات المعالجة الفكرية لقضايا الساعة.

هذه العوامل وغيرها مكنت الشيخ الصفار من تشخيص الداء الأكبر الذي تعاني منه الأمة اليوم، والمتمثل في ثلاثية «التطرف والعنف والإرهاب»، فمن يراجع سلسلة خطاباته لهذه السنة يجدها تصب في معالجة التطرف الديني المؤدي إلى العنف والإرهاب، ضمن ثلاثة محاور رئيسة، هي: المواجهة الفكرية، وانتاج ثقافة التسامح، ثم قدم مقترحات عملية لمواجهة التطرف.

الخطاب الديني بين المسؤولية والشعبوية

بهذا العنوان بدأ سماحته موسم عاشوراء، وكأنه يُحَمِّل نفسه مسؤولية الارتقاء بالمنبر، وقد احتوى الموضوع على ثلاثة محاور:

1. تأثير الخطاب الديني في المجتمع

2. ضوابط المسؤولية في الخطاب

3. الاستجابة للميول الشعبية

وقد حدد ضوابط المسؤولية في ضابطين:

أ/ الانطلاق من قيم الدين.

ب/ رعاية المصلحة العامة للدين والمجتمع.

هذه المقدمة المهمة للخطاب، تفتح باب المراجعة لكل من ارتقى المنبر، بحيث تحمله مسؤولية مراجعة ما يلقيه على أسماع الناس، فهو مسؤول عما ينتجه خطابه من تداعيات اجتماعية على أرض الواقع، وعليه أن يراقب الله في كل كلمة يتفوه بها، من جهة ثانية فإن هذا الموضوع يؤسس لوضع الخطيب تحت دائرة المحاسبة القانونية والاجتماعية، وهو أمر في غاية الأهمية، خصوصاً في عصرنا الحاضر.

مواجهة التطرف

لأن ظاهرة التطرف وتداعياتها مشكلة معقدة متشابكة، تحتاج إلى جهود كبيرة لدراسة أسبابها ومعالجتها، وجدنا سماحة الشيخ حفظه الله بذل جهداً كبيراً في أبحاثه، وتناول المواضيع المتصلة بهذه الظاهرة من جميع جوانبها، ويمكن أن نقرأ خطوات المواجهة من خلال مراجعة محاضرات سماحة الشيخ ونوجزها في ثلاثة محاور:

المحور الأول: المواجهة الفكرية.

المحور الثاني: إنتاج ثقافة التسامح.

المحور الثالث: مقترحات عملية.

المواجهة الفكرية

التطرف المظاهر والأسباب

كالطبيب الحاذق يحلل الشيخ ظاهرة التطرف، ويستعرض مظاهرها وأسبابها، قبل أن يصف لها العلاج الناجع.

مظاهر التطرف وأعراضه

1/ التعصب، ويعني: إصرار الإنسان على فهم معين للدين، واعتقاد الحق المطلق في ذلك الفهم، ورفض النقاش فيه، مما يمنع على المتعصب تقويم فهمه، وسد الخلل فيه.

2/الانغلاق، فالمتطرف لا يقبل الحوار ولا الانفتاح على الآخر، والانغلاق له آثار نفسية وفكرية خطيرة، حيث يضخم حالة الغرور والتعالي، ويرسم صورة قاتمة عن الآخرين، وهو ما تلجأ إليه الجهات المتطرفة لتحاصر أتباعها.

3/ التشدد في الأفكار والمواقف، بحيث تتحول المسائل الجانبية إلى قضايا مفصلية.

4/ السعي لفرض الرأي على الآخرين.

5/ الحدية والعنف تجاه الآخر.

الدوافع والأسباب.

يحدد سماحته أسباب التطرف في ثلاثة:

أولاً: سبب فكري ثقافي

يتمثل في تضخم بعض الجوانب من الدين على حساب الجوانب الأخرى، وهو ما نراه واضحاً عند بعد الجماعات التي ترفع شعار «الولاء والبراء» وتُغفل مبدأ الحرية أو «لا إكراه في الدين».

ثانياً: العامل النفسي

نتيجة تفجر النزعات العدوانية في نفس الإنسان بسبب مشاعر الإحباط والظلم الاجتماعي والقمع السياسي، كما أن هناك أفراد معقدون بطبيعتهم يبحثون عن التشدد وينطلقون منه.

ثالثاً: الدوافع المصلحية

هناك من يستخدم التطرف طريقًا للسلطة والزعامة، كما أن الأعداء من خارج مجتمعاتنا قد يشجعون التطرف في أوساطنا لإضعاف مجتمعاتنا وتعويق مسيرة التنمية في أوطاننا وتمزيق صفوفنا.

كيف نواجه التطرف؟

تنطلق الجماعات المتطرفة في حربها على المجتمع من مقدمة دينية خطيرة وهي التكفير، فقبل أن تبدأ بالعنف ضد أي جهة تستدل على تكفيرها، ولخطورة هذه المسألة بحثها سماحة الشيخ في محاضرتين، فصل فيهما القول، وبدأ بشرح خطورة التكفير ونتائجه، فقال: إن التكفير يعني إسقاط الهوية الدينية مما يلغي كل الحقوق والامتيازات التي يحصل عليها الإنسان بإسلامه.

ثم بين آراء الفقهاء في استحقاق الهوية الدينية المتمثلة في ثلاثة أمور:

1/ النص وذلك بإعلان الشهادتين.

2/ التبعية.

وتعني أمرين:

الأول: التبعية للأبوين

الثاني: التبعية لدار الإسلام

3/ / الدلالة

وتعني أداء الأفعال المختصة بالإسلام كالصلاة والصوم وغيرها.

وقد استشهد سماحته بروايات من التاريخ الإسلامي تدل على سماحة الإسلام، وأخذه بظاهر المسلم، وعدم جواز التفتيش عن قلبه.

اتجاهات التكفير

قدم سماحة الشيخ قراءة تاريخية واقعية لاتجاهات التكفير في الماضي والحاضر، محددا الأصول الفكرية والدوافع لكل اتجاه، وهو أمر في غاية الأهمية لكل باحث أو معالج لهذه القضية الخطيرة، وكأنه يفضح هذه الاتجاهات كخطوة من خطوات المواجهة، وحددها في اتجاهات أربعة:

1/ اتجاه الخوارج.

2/ الاتجاه التكفيري السلطوي.

3/ التكفير المذهبي ومنكر الضرورة.

4/جماعات الإسلام السياسي.

أهل البيت يرفضون العنف

ولكي تكتمل المعالجة والمواجهة، أوضح سماحة الشيخ منهج أهل البيت في التغيير، وأنهم يرفضون العنف والمواجهة المسلحة.

يقول سماحته «ما كانت تنقص أهل البيت الشجاعة ولا روح التضحية لكنهم، كانوا لا يريدون للأمة أن تدخل في دوامة العنف، فيتحملون الظلامة ولا يلجؤون إلى العنف»

وهي رسالة صريحة موجهة لمن يؤمن بحمل السلاح من أتباع أهل البيت، حمل السلاح مرفوض بغض النظر عن أحقية المطالب والأهداف.

إنتاج ثقافة التسامح

قدم سماحة الشيخ في هذا المحور من محاضراته ثقافة إسلامية أصيلة، تستند إلى النصوص الدينية، تبعد الإنسان عن التطرف في التفكير والسلوك، فتحت عنوان «مشروعية الاختلاف في الرأي» تحدث عن دعوة القرآن للتفكير، وما ينتجه من آراء مختلفة، فلا يمكن أن يجتمع الناس على رأي واحد، مما يعني ضرورة القبول بوجود الآراء واحترامها.

وقد عالج مسألة «إدارة الاختلاف» بأسلوب راقٍ، مؤكداً على أن تبني رأياً معيناً والدفاع عن صوابيته، لا تبرر قمع الرأي الآخر، وسلبه المشروعية.

ولكي يدير الإنسان اختلافه مع الآخر عليه أن يلتزم أخلاقيات الاختلاف،

أولاً: الانفتاح على الرأي الآخر وتفهمه وليس سدّ الأسماع أمامه.

ثانياً: محاورة الطرف الآخر ومطالبته بأدلته ومبرراته.

ثالثاً: حق عرض الرأي وتفنيد الرأي الآخر.

رابعاً: عدم الإساءة للرأي المخالف.

وإكمالاً لهذه الثقافة بحث موضوع العقل ومركزيته في الرؤية الدينية، وذلك تحت عنوان

«تهميش العقل في الحالة الدينية» فأكد على ضرورة إعمال العقل، فهناك تلازم بين الدين والعقل، واستعرض في هذا المجال رأي الشهيد السيد محمد باقر الصدر حول ما يبدو أنه تعارض بين النص الديني والعقل، الذي يؤكد عدم إمكانية التعارض بين العقل والدين.

إن معالجة هذا الأمر ترتقي بآفاق تفكير الإنسان، وتبعده عن الأوهام، أو ما يعتقد أنه من الدين،

مقترحات في مواجهة التطرف

يقترح سماحة الشيخ خطوات مواجهة التطرف في الأمة الإسلامية عدة مقترحات مهمة:

أولاً: إعادة النظر في التراث ومراجعته.

ثانياً: إعادة النظر في مناهج التعليم الدينية في المعاهد والحوزات.

ثالثاً: مراجعة الخطاب الديني.

رابعاً: ضرورة التواصل بين المرجعيات الدينية الأساسية في العالم الإسلامي.

وقد حددها في جهات أربع:

الأولى: مفتي المملكة وهيئة كبار العلماء.

الثانية: شيخ الجامع الأزهر في مصر.

الثالثة: المرجعية العليا في النجف.

الرابعة: مرجعية الحوزة العلمية في قم.

إن مشكلة التطرف والعنف والإرهاب تتطلب تضافر الجهود من جميع المفكرين والعلماء والتربويين حتى نخلص مجتمعاتنا من هذا الداء الخطير، وما قدمه سماحة الشيخ في هذه الأبحاث جهد مميز يشكر عليه، نسأل الله له ولجميع العاملين التوفيق والسداد لتوحيد الأمة وتخليصها من داء التطرف والعنف.