من أجل بناء أجيال غير مُشوَّهة نفسياً
إذا كانت مناداة الطفل الصغير بالألقاب الحسنة والطيبة، وذات المعان الجميلة، أو توصِيفه بالعبارات المقبولة والإيجابية، يُسهم كثيراً في نُموه النفسي، ويرفع من معنوياته، وتجعله يتكيف مع البيئة التي يعيش فيها، وتدفعه للثقة بنفسه، وتُولد في نفسه الدافعية إلى بدل الجهد، والعمل على تحقيق الطموحات، وتُشجِّعه على العطاء، فإنه على العكس من ذلك حين يتم مناداته بالألقاب الفاحشة والمنكرة، أو إطلاق الألقاب القبيحة والسيئة عليه، حيث ينعكس ذلك سلباً في نفسه، ويحطم معنوياته ويُدمر شخصيته، ويُثبط عزائمه، ويُصيبُه بالإحباط والخيبة.
إنَّ ”تقبُل الآباء وتعاطفهم واستحسانهم وتفهمهم وامتداحهم للطفل يؤدي إلى ارتفاع في اعتبار الذات لديه، وارتفاع في الكفاح للإنجاز، فيما النبذ والنقد يؤدي إلى شعوره بعدم الجدارة، وإلى اتجاه من نوع «ما جدوى المحاولة». كما يؤدي اللوم المستمر إلى تكوّن صورة للطفل عن ذاته بأنه طفل شقي، وغالباً ما يتصرف بناء على هذه الصورة. فالأطفال الأشقياء يتصرفون بشكل سيئ، وهم بذلك يؤكدون الصورة لأنفسهم، ويبرهنون لآبائهم بأن التسمية السيئة كانت في مكانها. وكذلك فإن الأطفال الذين يُخبرون بأنهم خرقى وتعوزهم البراعة يشعرون بأنهم بُلهاء فعلاً، ويتصرفون على هذا النحو، وهؤلاء الأطفال تتم الإشارة دائماً لفشلهم، ولا يعطُون أي ردود أفعال إيجابية“. [1]
إن التلفظ بالكلمات السيئة ضد الطفل، وتوجيه النقد اللاذع إليه وشتمه، والانتقاص منه، وتوصيفه بأوصاف سلبية، وإطلاق العبارات المُهينة عليه، تسبب له صدمة نفسية، وتترك جروحاً غائرة في نفسه، فتُدمر نفسيته، وتُحطم شخصيته، وتُعيق نموه العاطفي، وهو الأمر الذي ينعكس سلباً على حياته، حيث يقل شعوره بقيمة ذاته، ويخفِّض من مستوى اعتبار الذات لديه، ويزيد شعوره بالنقص، ويقتل ثقته بنفسه. حيث ينتابه شعور متكرر بعدم القدرة على تحمل المسؤولية، والشعور بالضعف، وفقدان الإحساس بأهميته واعتداده بنفسه، وهو ما يجعله متردداً وخائفاً وغير جريء، وبالتالي تقل إبداعاته، وتتعطل طاقات الإبداع لديه، وتتشتت قدراته ومواهبه، وتضعف مقدرته على استخدام عقله وقدراته الإبداعية.
وعلى سبيل المثال فإن ”الطلاب الذين يشعرون بأن معلميهم غير راضين عنهم ينخفض اعتبار الذات لديهم، كما ينخفض تحصيلهم العلمي، وغالباً ما يتصرفون على نحو سيئ“، [2] وقد يكون مصيرهم الفشل. لذلك ”فإن ضعف ثقة الفرد بنفسه وقدراته يؤثِّر في شخصيته وفي تحصيله وإنجازاته، حيث أشارت كثير من الدراسات إلى أن هناك ارتباطاً كبيراً بين مفهوم الذات والتحصيل الدراسي، فالطفل الذي يفتقد إلى الثقة بالنفس يخاف من المبادرة في القيام بأي عمل أو إنجاز لأنه يخاف الفشل والتأنيب، لذا تراه متردداً في القيام بأي عمل، حيث إن الأبناء يشعرون بالإحباط إذا ما تهدد أمنهم وسلامتهم“. [3]
وحسب رأي الدكتور إبراهيم الخضير، الاستشاري في الطب النفسي، فإن "الفاشل أو الفاشلون في هذه الحياة ربما يكونوا قد تعثروا في حياتهم وأصبحوا يحملون وزر أمر ليس لهم فيه ذنب، فالفشل، أو أن يصبح الإنسان فاشلاً، تبدأ من مراحل مبكرة جداً من حياة الفرد. فالطفل الذي يعنفه والده مثلاً، واصماً إياه بالفاشل، فإن هذه المشاعر تتنامى داخل نفسية الطفل الصغير وتكبر معه. فالكثير من الآباء والأمهات يطلقون على ابنهم أو ابنتهم وصف الفاشل، أو الفاشلة، حينما يخفقون في شيء بسيط خلال مراحل طفولته الأولى، وهذا يؤدي إلى تقبل الطفل على وصف أنه فاشل، خاصة إذا كان هذا الوصف يكرر دائماً، ويتصرف وفق هذا الوصف الذي أطلق عليه من قبل أقرب الناس إليه.
ويضيف الخضير بأن بعض الأشخاص يتقبل وصف الفاشل عليه، نظراً لما نشأ عليه من إطلاق هذا الوصف من قبل أقرب الناس إليه. إلا أن الأهل لا يدركون ما الذي يفعلونه بأبنائهم عندما يطلقون عليهم صفات سلبية مثل فاشل ومرادفات هذه الكلمة المزعجة، والتي تغرس في نفس الطفل وتؤثر عليه سلباً، وتجعله ينشأ على تقبل الصفات السيئة التي يمكن أن يوصم بها من قبل الآخرين.
إنه لأمر في غاية السوء أن ينعت الوالدان أو الإخوة ابنهم أو شقيقهم بأوصاف سيئة تغرس في نفوس الصغار السلبية، وتجعلهم يكبرون وهم يشعرون بالدونية مقارنة بمن يماثلونهم عمراً. لذلك لابد أن نعي ما نقول حتى في انفعالاتنا لأبنائنا، أو أبناء الغير، أو لأي صغير، ونتذكر جيداً أن بناء الشخصية يحتاج للثقة بالنفس، وعندما تهتز هذه الثقة من قبل الوالدين أو المعلم، بتلك الكلمات غير المنضبطة، حتماً ماذا سيكون نتاجها سوى طفل مكسور مهزوز الشخصية، وسيفشل علمياً وعملياً بشكل حقيقي عندما يكون نقاشنا معه بتكرار عبارة «الفاشل أو مرادفاتها» ". [4]
إن سوء معاملة الأبناء الصغار يؤثِّر تأثيراً كبيراً في شخصياتهم المستقبلية، ويُضعف ثقتهم بأنفسهم، وفي قدراتهم الشخصية، ويعيق قدرتهم على التحصيل والإنجاز. فكم هم هؤلاء الذين تعرضوا للفشل في حياتهم بسبب وصمهم من قبل آبائهم ومربيهم بالفشل، أو بما يماثلها من كلمات سلبية، حيث علُقت هذه الوصمة في نفوسهم وتعززت مع تكرارها، ولم يتمكنوا من محوها من نفوسهم حين شبّوا وكبرُوا.
وتلفت الاستشارية التربوية إيمان صديق إلى أن ”هناك العديد من المؤشرات السلوكية التي تدل على تعرض الفرد للإساءة اللفظية أثناء طفولته منها: السلوكيات الطفولية، والعدوانية المفرطة، والسلوك المخرب والهجومي مع الآخرين، ومشكلات النوم، واضطراب الكلام، وعدم الاندماج في نشاطات اللعب، وصعوبة التفاعل مع الآخرين، والاضطرابات النفسية كالانفعالات الحادة والوساوس والمخاوف والهستيريا، ووصف الفرد ذاته بعبارات سلبية، والخجل والسلبية، وسلوكيات التدمير الذاتي، وتعطيل طاقات الإبداع والابتكار، وعدم القدرة على تحمل المسؤولية، والشعور بالضعف“. [5]
وبناء عليه فإن وصف الطفل بالصفات المهينة والغير لائقة تولد اليأس والتشاؤم والشعور بالنقص في نفسه، وتؤثر على ثقته بنفسه، وتكوَّن لديه احتقاراً للذات. حيث تُدمر هذه الألفاظ نفسيته، وتشجعه على الانحراف، وتترك أسوأ الآثار على مستقبله، فيصبح إنساناً سلبياً وانطوائياً ومنكفئاً على ذاته، وينسحب من المجتمع، وهو الأمر الذي يعيق تطوره في الحياة.
إن المسؤولية تقتضي احترام حق الطفل في إنعاته بالألقاب الحسنة، ومعاملته معاملة حسنة، ومراعاة كل قول أو فعل يوجه إليه، وأن يكون الوالدان والمربين قدوة للصغير في اللفظ والفعل. إذ أن من واجبهم مراعاة الأساليب الصحيحة في معالجة بعض السلوكيات الخاطئة، والتي تصدر من الطفل غالباً بغير قصد، بعيداً عن ردود الفعل السريعة التي تقصد تأديبه بالضرب، أو بالتلفظ عليه بعبارات قاسية تسبب له الحرج، وتعرضه للسخرية، وهي أساليب تتسبب في أمراض نفسية تؤثر على شخصية الطفل في الكبر.
إن خلق جيل من الشباب السوي، الخالي من المشكلات النفسية، يتطلب تثقيف وتعريف الآباء، والمعلمين، والمعلمات، وكل من له علاقة بتربية الطفل وتنشئته، بأصول وقواعد التربية السليمة والصحيحة، وألا تكون صعوبات الحياة وسرعة إيقاعها، وكثرة الأعباء الملقاة على عاتقنا جميعاً، عائقاً أمام إدراك أهمية توجيه الكلمات الطيبة لأبنائنا الصغار خلال حياتهم اليومية، والابتعاد عن توجيه تعليماتنا إليهم مصحوبة بالصراخ وأقذع الألفاظ، وألا نتناسى أثر هذه الكلمات القاسية على نفسية أبنائنا ومعنوياتهم حين يكبرون.