آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 11:33 م

نماذج تحدت الحياة فحققت أحلامها

هدى القصاب

لماذا لكثيرٍ منا، ارتبطت صورة متحدي الإعاقة اللذين امتلكوا الإرادة والعزم لمواجهة مختلف الإعاقات الجسدية، فنجحوا وأضاءوا العالم بما قدموه من إنجازات علمية وفكرية غيرت وجه الحياة، بالعظماء فقط؟

لماذا ارتبط هذا العزم والنجاح بالأسماء الكبيرة والخالدة فقط؟

هل لإيماننا بأننا لا نمتلك تلك الظروف والوعي والإمكانات والبيئة المناسبة لمجابهة هذا التحدي؟ أم لأننا لازلنا متمسكين إلى حد كبير بتلك النظرة النمطية لمتحدي الإعاقة، المنطلقة أما من الشفقة والعطف والحماية الزائدة، أو التجاهل والحيرة والانسحاب.

هل صنعنا من المجتمع بقصد أو دون قصد، بيئة غير صديقة وغير حاضنة لهذه الفئة؟

رغم كل ما يحققونه من إنجازات وما يملكونه من طموحات، لم لا يزالون في عزلة عن بقية أفراد المجتمع؟

سوف أشير هنا إلى أحد النماذج الحية، إلى رمز من رموز هذا النوع من التحدي في مجتمعنا، وهي الأستاذة أحلام محمد العوامي.

تعرفت على هذه السيدة المدهشة عن قرب خلال استضافة لها قبل أكثر من عام في أحد البرامج المدرسية اللذي أقيم بمناسبة اليوم العالمي للمكفوفين. الأستاذة أحلام قبلت الدعوة بحب ورحابة صدر مدعومة بالوعي والرغبة القوية الصادقة منها للحديث عن تجسيد المعنى الحقيقي لإرادة تحدي الإعاقة الجسدية. لم تكن بحاجة للتوقف كثيراً عند قصصٍ لحياة آخرين من متحدي الإعاقة البصرية في العالم أمثال لويس برايل الذي لم يستسلم لفقدان بصره، بل أظهر تفوقاً رائعاً بثورة ابتكاره لـ ”نظام كتابة برايل“، ولا عند عميد الأدب العربي طه حسين، أو هيلن كيلر ”الأديبة وصاحبة وسام الرئاسة للحرية“، أو أديسون وبتهوفن وغيرهم الكثير من عظماء ورموز الإنتاج الإنساني. بل كانت هي النموذج الحي الماثل أمام الجميع سواء لمن هم في مثل ظروفها أو غيرهم من الحضور، مما زاد التأثير عمقاً في بث روح الأمل وانتزاع اليأس والكفاح المستميت من أجل التغلب على كل عقبات الحياة. كان هدفها في ذلك الدفع بالجيل للوجهة الإيجابية في الحياة بعيداً عن مفردات العجز والاستسلام، ومن خلال واقع عاشت مراحله الصعبة بكل فصوله وقبلته كتحدي، واستطاعت بكل صبر وعزيمة وثبات وتوكل على الرب أن تتجاوز كل تلك العقبات وأولها وأعظمها هي نظرة المجتمع وتوقعاته، والتي تعتمد على مستوى الوعي والثقافة والإنسانية. كل ذلك تخطته ومضت إلى بناء مستقبلها العلمي برعاية والدها، حيث أكملت دراستها للمرحلة الثانوية في منطقة الاحساء، وبعدها التحقت بجامعة الملك سعود بالرياض في قسم التربية الخاصة. وعلى الصعيد المهني عملت بدايةً في معهد النور بالإحساء، ثم في منطقة سيهات في أول برنامج لدمج الكفيفات، ثم كلفت بالعمل معلمة مشرفة لبرامج الدمج البصري بالقطيف فبذلت قصارى جهدها في هذا المجال، وهي الآن تواصل العمل في نفس البرنامج بالابتدائية الرابعة بالقطيف. ولم يتوقف الطموح والعطاء عند هذا الحد إذ اتجهت أيضاً للخدمة في مجال العمل الاجتماعي منذ انطلاقة مركز رعاية المكفوفين بالقطيف التابع لجمعية مضر الخيرية في نهاية عام 1428 هـ . وقد أوكل إليها مقرر المركز الأستاذ علي عبد الله آل غزوي، منصب رئاسة اللجنة النسائية، بعد مساهماتها المتعددة في هذا المركز الذي يعمل جاهداً من خلال لجانه لتقديم العديد من الخدمات المتطورة بمختلف الطرق والوسائل الحديثة لضعاف البصر والمكفوفين من الجنسين في مختلف الأعمار. ويسعى المركز حالياً للتوسع في مجال التدخل المبكر للمكفوفين.

الأستاذة أحلام العوامي وأمثالها لم يتحدوا الحياة بطموحاتهم الشخصية فقط، وإنما استطاعوا العمل بكل إخلاص وتفاني لكي يقدموا للمجتمع خدمات قد يعجز عن تقديمها غيرهم من الأصحاء. هذه أحد نماذج التحدي الرائعة في مجتمعنا وبالتأكيد هناك غيرها الكثير الكثير.

ما نحتاجه فقط هو مزيدٌ من الانفتاح على هذه الفئة المهمة والفاعلة في المجتمع، ودعمها وتشجيعها بشتى الطرق والإمكانات وإدماجها في كل المجالات والأنشطة.

كفانا عزلة عن جزء أصيل وعناصر هامة مؤثرة لها إسهاماتها العالية في النهوض بالمجتمع، إذا ما تم احتوائها وتأهيلها وإكسابها الخبرات والمهارات التي تفتح المجال أمامها للمشاركة في جميع مجالات الحياة، وفق ما تملكه من قدرات واستعدادات يلزم تنميتها.

هنا يبرز دور المؤسسات بمختلف أشكالها واستخدام مواردها للتفاعل مع هذه الفئة، بما يكفل حقوقها من الناحية الإنسانية والاجتماعية، انطلاقاً من مبدأ العدالة وتكافؤ الفرص والمساواة بين هذه الفئة وغيرها من أفراد المجتمع مهما كان نوع الإعاقة.

كلما كان المجتمع متحضراً كلما ارتقى في نظرته الإنسانية لهذه الفئة، ما يجعلهم يندمجون في مجتمعهم بصورة تكاملية، لذلك علينا جميعاً أن نؤكد انفتاحنا الفعلي الكامل على هذه الفئة ونمكنها من كامل حقوقها بحيث لا تخلو منها دائرة أو مؤسسة أو أي جهة أخرى. فهي جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع ونموذج يستحق أن نقتدي به جميعاً، علنا نصبح قادرين على تحدي ما يسود في المجتمع من جميع الإعاقات الفكرية والروحية والقيمية والسلوكية.