حماية الدين أم حماية التراث الديني
ما أن أطلت نظرية القبض والبسط لسروش على الساحة المعرفية والفكرية إلا وبدأت الردود والتعليقات المتتالية والمتتابعة عليها من كل حدب وصوب.
وأنا منذ فترة ليست بقصيرة أتتبع قراءة ما يصدر حولها من ردود سواء كان مقالا أو كتابا أو دراسة.
هذا التتبع ولّد في نفسي تساؤلا له علاقة بالتجديد والتغيير المنهجي والأدواتي والقيمي ألا وهو:
هل وظيفة علماء الدين حماية التراث الديني المتمثل في نتاجات علماء السلف أم حماية الدين نفسه؟
لاشك ولا ريب بأن وظيفة علماء الدين الأساسية هي حماية الدين، لا حماية التراث الديني. وهذا يتطلب اجتهادا فعليا تجديديا على مستوى المنهج والأدوات المعرفية لتحل قيم معرفية جديدة تناسب العصر بدلا من قيم معرفية عفى عليها الزمن.
ومسألة التجديد من أبرز المسائل التي تشكل علامة جدلية في أروقة الحوزات العلمية، إذ بنظرة بانورامية على تاريخها وعلمائها اتجاه مسألة التجديد سنرى العلماء ينقسمون إلى سفساطين:
- قسم يرى بأن حماية الدين لا يكون إلا بالمحافظة على الموروث المعرفي الديني الذي ورثناه من علماء السلف ووصد الأبواب أمام أي نتاج فكري بشري حديث وافد الذي - في نظرهم - يشكل خطرا حقيقيا يهدد البنية المعرفية التي شيدها العلماء الأوائل. بصياغة آخرى: التمسك بكل ما هو قديم ورفض كل ما هو جديد بحجة المحافظة على الدين وصفائه ونقائه، والحفاظ على الهوية الدينية.
وهذا يؤدي إلى الانغلاق على الذات والجمود وإغلاق جميع أبواب ونوافذ التجديد والقطيعة مع النتاج المعرفي الإنساني المعاصر وعدم التواصل مع الناشئة فكريا ومعرفيا.
وهذا الموقف المتشدد من هذا الفريق اتجاه التجديد عائد إلى عدم وجود الرغبة في حناياهم على الاضطلاع على ما هو جديد وعدم القابلية على التواصل مع المعارف البشرية الحديثة، كعلم الاجتماع والاقتصاد والقانون وتاريخ وفلسفة العلوم وعلم النفس ونظرية المعرفة واللسانيات.
ونتيجة هذا الافتقار يرى هذا الفريق الاضطلاع على مثل هذه العلوم ما هو إلا إضاعة الوقت سدى وبذل جهد لا جدوى من ورائه.
وقسم آخر من العلماء يعيش في داخله هاجس المحافظة على الدين لا المحافظة على الموروث الديني المعرفي كأساس، فيجند كل طاقاته الفكرية والمعرفية والإبداعية بغية تحقيق هذا الهدف.
والهدف - في نظره - لا يتحقق إلا بالتغيير والتجديد المنهجي والأدواتي والقيمي.
فأفراد هذا القسم لا يرون بأن المحافظة على الدين لا يكون إلا بالتمسك بتلابيب النتاج المعرفي للعلماء الأوائل، بل يرون من الضروري وضع نتاجهم تحت طائلة الدراسة والنقد والتشريح، مادام نتاجا بشريا فهو بمنأى عن العصمة. والمعرفة المسلوبة العصمة هي عرضة للخطأ والزلل، وبالتالي بحاجة ماسة إلى المراجعة النقدية المستمرة.
وإيمان أفراد القسم بضرورة المراجعة النقدية للتراث القديم ولّد لديهم رؤية اتجاه الاجتهاد، إذ باتوا لا يرون تحقق الاجتهاد الفعلي الحقيقي إلا بالعمل على إيجاد قراءة جديدة للنصوص الدينية بالأخذ بمعطيات الزمن الحالي المتعلقة بالمنهج والأدوات ونحو ذلك.
ومن الشخصيات العلمية التي تمثل أنموذجا واضحا على التجديد إن كان على مستوى التنظير أو على مستوى الأدوات والمنهج أو على مستوى الهدف، هو السيد محمد باقر الصدر.
السيد الصدر حمل لواء التجديد بكل شجاعة وثبات، متكئا على ذهنية وقادة ونفس وثابة وإمكانيات ثقافية وفكرية عملاقة واضطلاع واسع على مختلف نتاج العلوم العصرية من اقتصاد ومذاهبه واجتماع وعلم نفس ونظرية المعرفة ومذاهب الفلسفة الغربية ونحو ذلك.
والشيء البارز واللافت في شخصية هذا الرجل العلمية هو حماسه المنقطع النظير في الدفاع عن الدين، ولكن دون أن يخلق في نفسه عقدة وحساسية مفرطة اتجاه الأفكار المعرفية الوافدة، ولم يضع سياجا حديديا يمنع فكره من التعامل معها، بل تعامل معها من منطلق الناقد ذي الباع الفكري والمحلل ذي اليد الطولى في التحليل.
بخلاف التيار التقليدي الذي يرفض فكرة التعامل مع معطيات المعرفة الحديثة جملة وتفصيلا.
ومن يقرأ منجزات هذا الرجل الفكرية - إقتصادنا والبنك اللاربوي في الإسلام وفلسفتنا والأسس المنطقية للإستقراء والفهم الاجتماعي للنص وغيرها - يجد بوضوح مقدرته الفائقة على تقديم الإسلام كإيديولوجية قادرة على مقارعة الإيديولوجيات الحديثة من رأسمالية وماركسية وتتفوق عليها.
ومن أهم منجزاته الفكرية كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، إذ قام بإعادة بناء نظرية المعرفة على أساس علاج الثغرة المنطقية التي تتعلق بالدليل الاستقرائي على ضوء نظرية الاحتمال.
ولم يبقِ نظريته حبيسة في إطارها النظري، بل قام بتطبيقها على ميادين معرفية مختلفة، كعلم أصول الفقه، إذ طبق نظرية الاحتمال في مسألة القطع. وفي أصول الدين اعتمد في البرهنة عليها على المنهج الاستقرائي، بخلاف المنهج التقليدي القائم على المنطق الأرسطي في البرهنة.