التربية على التسامح
في إطار العلاقة الداخلية بين المسلمين، بمختلف مذاهبهم ومدارسهم الفقهية والفلسفية والفكرية، ثمة مشاكل وعقبات عديدة، تحول دون تطوير هذه العلاقة، وإيصالها إلى مصاف العلاقات المتميزة على كل الأصعدة والمستويات.
ففي كل البلدان العربية والإسلامية، حيث تتواجد المذاهب الإسلامية المختلفة، والمدارس الفقهية المتعددة، هناك مشاكل وحساسيات، تعرقل مشروع التفاهم والتعاون والوحدة بين المسلمين.
مما يجعل الجفاء والتشرذم وسوء الظن وغياب التواصل الحيوي والفعال، هو سمة العلاقة الداخلية بين المسلمين في كل البلدان والمناطق.. وأقول وأدون هذا الكلام، ليس من أجل جلد الذات، أو تبرير وتسويغ الواقع القائم، وإنما من أجل التفكير في بناء مقاربة ورؤية جديدة، تساهم في تطوير العلاقة الداخلية بين المسلمين.
فليس قدرنا أن نعيش متباعدين ومتجافين، كما أن مشاكلنا سواء التاريخية أو الراهنة، ليست مستحيلة المعالجة. وإنما نحن نحتاج إلى وعي جديد وإرادة مجتمعية جديدة، تعطي الأولوية لإصلاح حقل العلاقات الإسلامية الداخلية. لأننا نعتقد أن الكثير من المشاكل والأزمات الداخلية في كل بلداننا ومناطقنا، لا يمكن التغلب عليها، بدون ترتيب البيت الداخلي للمسلمين.. فتوزع المسلمين بين مذاهب ومدارس فقهية متعددة، ليس مبررا لاستمرار القطيعة والتباعد، كما أن وجود آراء وقناعات مختلفة بين المسلمين، لا يشرع لأي طرف إعلان الخصومة والعداوة بين المسلمين.
فالباري عز وجل يقرر في كتابه الحكيم، أن طبيعة العلاقة الداخلية بين المسلمين بمختلف ألوانهم ومناطقهم ومدارسهم هو الرحمة. امتثالا لقوله تعالى [رحماء بينهم].
فالمطلوب هو أن تكون قيمة الرحمة، هي السائدة والحاكمة في علاقة المسلمين مع بعضهم البعض. والاختلافات المذهبية أو الفكرية أو القومية بين المسلمين، ليست مبررا لتجاوز مقتضيات الرحمة.
وما يجري اليوم في العديد من البلدان بين المسلمين سنة وشيعة، حيث القتل المجاني وحروب الإلغاء والتمييز والتكفير والتضليل، لا تنسجم والدعوة القرآنية إلى أن تكون العلاقة بين المسلمين تجسيدا واقعيا لقيمة [رحماء بينهم].
فليس من الرحمة قتل المختلف معك مذهبياً أو الإساءة إلى معتقداته ومقدساته، أو التعدي على حقوقه المادية والمعنوية.
إن مقتضى الرحمة هو حماية المختلف والاعتراف في حقه في الوجود والتعبير واحترام رموزه ومقدساته.
فلا يليق بأي إنسان مسلم، أن يسيء إلى أخيه المسلم، أو ينتهك حقوقه ومقدساته، مهما كانت حجم الاختلافات والتباينات.
فالاختلافات بكل مستوياتها، لا تشرع لأحد إطلاق الأحكام جزافا، أو امتهان كرامات الناس، وإنما هي تشرع لضرورة الحوار والتواصل والبحث العلمي والموضوعي في الآراء والقناعات بعيدا عن الآراء والمواقف المنمطة السابقة.
وفي سياق ضرورة العمل لتنقية الأجواء الإسلامية الداخلية، من كل الأشياء التي تعكر صفو العلاقة الإيجابية، أود التأكيد على النقاط التالية:
1. إننا كمسلمين بمختلف مذاهبنا ومدارسنا، لا يمكن أن نعيد عقارب الساعة للوراء. وأحداث التاريخ وتطوراته المختلفة، لا يمكن إعادتها مجددا، لهذا فإن إحياء هذه المشاكل، يفاقم من أزمات العلاقة الراهنة.
والمطلوب من الجميع هو بلورة وعي جديد من أحداث التاريخ. وقوام الوعي الجديد هو قراءة أحداث التاريخ قراءة علمية وموضوعية، مع احترام تام لكل الرموز التاريخية للمسلمين. فوجود تقييمات تاريخية مختلفة بين المسلمين، لا يشرع لأي طرف الإساءة إلى رموز الطرف الآخر ومقدساته. لهذا فإننا نرفض ولاعتبارات دينية وأخلاقية وإنسانية، نهج الشتائم والسب، ونعتقد أن هذا النهج لا ينسجم وأخلاق الإسلام ومثله العليا، كما أنه لا يتناغم ومقتضيات الأخوة والشراكة.
2. في تقديرنا أن التعايش هو مصيرنا كعرب ومسلمين. وإن علينا أن نفتح عقولنا وكياننا على آفاق هذه العملية، ليست لأنها تنسجم وقيم الإسلام فحسب، بل لأنها تفاعل وانفتاح على المصير.
وهذا يعني أن نخرج من التناحر والاقتتال، وأوهام التميز والفرادة. ونعلن بعقل ناضج ضرورة تجاوز معاناتنا الطويلة، بالوعي الكامل لتحديات راهننا وآمال مستقبلنا. فالتعايش الاجتماعي جهد متواصل ضد اللامقبول على مختلف الصعد والمستويات. وقوامه تسالم الإرادات الوطنية، وانصهار مصالحها في الكيان الاجتماعي الوطني.
3. إن البداية الفعلية للتغلب، على الكثير من النوازع والغرائز، التي تميز وتفصل بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتزرع الشقاق، وتؤكد الخصام، هو طغيان حب الذات وتضخيمها بحيث لا يرى الإنسان إلا ذاته ومصالحها.
أما التوجيهات الإسلامية، فتؤكد على ضرورة أن يتم التعامل مع الآخرين، وفق القاعدة النفسية والاجتماعية، الذي يحب الإنسان نفسه، أن يعامل وينظر إليه من خلالها. ف «ما كرهته لنفسك فاكره لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك، تكن عادلا في حكمك، مقسطا في عدلك».
من منا لا يحب أن يحترمه الآخرون، ويتعاملون معه بإنسانية راقية، وأخلاق حضارية. من منا لا يشعر بالاشمئزاز، حينما لا تكون علاقة الآخرين معه سوية وسليمة، وذلك لدواعي ليست من كسبه.
إن بوابة تصحيح كل هذا الاعوجاج، يبدأ بتعاملي مع الآخرين. فإن مساواة الآخر مع الذات هو الذي يخلق النسيج الاجتماعي المتداخل والمتواصل والمنسجم في حركته وعلاقاته المتعددة.
ولا شك أن مساواة الآخر مع الذات، سيعلي من شأن القيم المشتركة، وسيجعلها حاضرة باستمرار في الوسط الاجتماعي. كما أنها تزيد من حالة الإحساس بالمسؤولية المشتركة تجاه بعضنا البعض. وكل هذه العناصر ضرورية لبناء سلم اجتماعي متراص ومستديم.
4. إن صياغة العلاقة بين مختلف المذاهب الإسلامية، على أسس جديدة، يتطلب من جميع الأطراف العمل الجاد لتفكيك الصور النمطية القائمة بين أتباع المذاهب الإسلامية تجاه بعضهم البعض. حيث أن الصور النمطية السائدة، هي التي تعمق الحواجز النفسية بين المسلمين، وهي التي تحول دون تطوير مستوى التفاهم والتعاون بين أتباع المذاهب الإسلامية.
فالمذاهب الإسلامية ليست رأياً واحداً، أو حزباً واحداً، وإنما هي مجموعة من الاجتهادات والآراء، التي تعتمد على قيم وثوابت عليا محددة. وإن مستوى التباين على صعيد هذه القيم والثوابت العليا بين المذاهب الإسلامية محدود وضئيل. كما أن سنة اليوم كمجتمع وحراك ثقافي واجتماعي، ليست كسنة الأمس. وشيعة اليوم على الصعيد ذاته، ليست كشيعة الأمس.. والتعامل مع هذه العناوين وكأنها أقانيم ثابتة ونهائية، ولا يصيبها التغير والتحول، هو الذي يعمق الفجوات بين المسلمين.
لهذا كله فإننا نعتقد أن تطوير العلاقات الداخلية بين المسلمين، يتطلب العمل على تفكيك الصور النمطية المتبادلة بين المسلمين، وصياغة العلاقة على أسس الراهن وقناعات المعاصرين بعيدا عن إرث التاريخ وحقب الصدام الأعمى.
وثمة ضرورات ومؤشرات عديدة، تدفعنا إلى الاعتقاد أن المنطقة والظروف الحساسة التي تمر بها، وطبيعة التحديات والمشاكل التي تواجهنا، كل هذا يدفعنا إلى الاعتقاد أن هذه المنطقة بحاجة إلى مبادرات نوعية من أهلها، تستهدف فضح الإرهابيين ورفع الغطاء الديني عنهم، وبناء حقائق وخطاب إسلامي جديد قوامه الاعتدال والوسطية واحترام المكاسب الإنسانية والحضارية. وخطاب الاعتدال، لا يمكن تعزيزه، وتعميق موجباته في الفضاء الاجتماعي، بدون الحرية. فطريق الاعتدال الحقيقي، هو في توسيع دائرة الحرية والحريات. فهي الوسيلة الحضارية الكبرى لتجذير مفهوم الاعتدال في الوسط الاجتماعي والوطني.
وكل الممارسات الخاصة والعامة، المناقضة لمفهوم الحرية، هي ممارسات مناقضة لمفهوم تعزيز الاعتدال في الفضاء الاجتماعي. فالعلاقة عميقة بين مفهومي الاعتدال والحرية.
فالحريات بطبعها إذا توفرت في البيئة الاجتماعية، فإنها تدفع الناس إلى المزيد من الوسطية والاعتدال. كما أن الاعتدال سيكرس الممارسة السليمة لقيم ومتطلبات الحرية.
والمجتمع الذي يبحث عن الحرية، لا يمكن تحقيقها، بتبني خطاب الغلو والتطرف والتعصب. لأن هذا الخطاب يباعد على المستوى النفسي والعملي بين المجتمع والحرية.
والمؤسسة السياسية التي تبحث عن الاعتدال، بوسائل القهر والعنف، فإنها لن تحقق إلا المزيد من الغلظة والشدة والعنف.
لهذا فإننا نستطيع القول: أن الطريق الحيوي لتعزيز خطاب الاعتدال في الوطن، هو توسيع دائرة الحرية والحريات، والمزيد من الإجراءات والمبادرات التي تصون حقوق الإنسان وتحول دون امتهان كرامته.
ومشكلات الحرية بكل مستوياتها، لا تعالج بإفنائها أو تقليص مساحتها، وإنما بحمايتها، وتعزيز مقتضياتها بالقانون. وبهذا نصل إلى معادلة واضحة لعملية تفكيك جذور خطاب وحقائق التطرف والتعصب، وبناء حقائق التسامح والاعتدال. وهي [الحرية - الاعتدال - سيادة القانون].
فهذه هي العناصر الجوهرية لصياغة الفضاء الاجتماعي، بعيدا عن كل أشكال الغلو والتعصب ونزعات الفوضى والخروج على النظام.
فالحرية هي طريق الاعتدال، ولا حماية لهما إلا بسيادة القانون الذي يمارس دور الحماية والردع في آن.
ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن المنطقة تعيش اليوم مرحلة النتائج والتداعيات الخطيرة لخطاب ديني متطرف، وإلغائي، ويعمل على طمس معالم الاعتدال والتعايش السلمي في المنطقة.
لذلك فإن الحاجة ماسة اليوم، لبلورة استراتيجية وطنية وإسلامية جديدة، تتبنى قيم الاعتدال والتسامح وحقوق الإنسان، وتتكيف مع مقتضيات العصر، بحيث تتحول القيم الدينية إلى قيم دافعة إلى البناء والتنمية والتعايش.
ويعاني المجال الإسلامي في هذه اللحظة التاريخية الحساسة الكثير من عناصر التوتر المذهبي والتطرف الديني. بحيث أصبحنا نعاني في الكثير من البلدان والمناطق من ظاهرة التوتر المذهبي أو القومي أو العرقي أو السياسي المفتوح على احتمالات خطيرة تهدد الجميع في حاضره ومستقبله. لهذا ومن أجل وقف الانحدار إلى الصراعات والتوترات المذهبية والداخلية، نحن بحاجة إلى مبادرات وطنية وقومية وإسلامية تحول دون المزيد من الانحدار على هذا الصعيد وتعمل عبر وسائل ومنهجيات مختلفة من أجل إشاعة وتعميم ثقافة الاعتدال ومنهج العمل والفكر الوسطي بدون غلو أو تنطع. ونحن نعتقد أن المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية، تتحمل مسؤولية عظيمة في هذا السياق، وتمتلك القدرة الفعلية للمساهمة في توجيه الرأي العام باتجاه هذه القضايا والمتطلبات، التي تضبط نزعات التطرف والتوتر الداخلي في العديد من البلدان العربية والإسلامية.
وإن حاجة أمتنا اليوم إلى خطاب الاعتدال، ليس حاجة ترفية، بل من الحاجات الضرورية التي تساهم في حفظ وصيانة المكتسبات الحضارية، وتوفير البيئة الملائمة لمواجهة الكثير من التحديات والصعوبات التي تستهدف أمتنا في حاضرها ومستقبلها.
وبالتالي فالمطلوب على هذا الصعيد، هو تظهير قيم الاعتدال والوسطية ونسج العلاقات الايجابية بين مختلف الأمم والشعوب والثقافات والحضارات. وهذا التظهير ليس خاصا بحقل دون آخر، وإنما جميع حقول المجتمع ودوائره المتعددة، معنية بشكل أساسي بتظهير قيم الاعتدال والوسطية في المجتمعات العربية..
ولا يكفي في هذا السياق، أن نعلن الخطاب المتطرف والمغالي والمتشدد، وإنما ينبغي أن يسند مشروع تفكيك وفضح الخطاب المتطرف، بصياغة خطاب معتدل، وسطي، متوازن، ويبني حقائقه ووقائعه في الساحتين الثقافية والاجتماعية..
فالمطلوب اليوم على الصعيد الوطني والقومي، وفي ظل هذه الظروف الحساسة والتحديات الصعبة، العمل على صياغة خطاب وطني وقومي وسطي يفكك نزعات التطرف والغلو، كما يبني حقائق الاعتدال والتسامح في الفضاء الاجتماعي.
والتسامح في التجارب الإنسانية، ليست خياراً ناجزاً، وإنما هو مرحلة تبلغها المجتمعات، من خلال روافد عديدة وحقائق متنوعة، تعمل على تجسيدها في الفضاء الاجتماعي والثقافي والقانوني والسياسي.
إن التعبير الإسلامي الشامل، الذي يحتضن مفردات التسامح وتجلياته الخاصة والعامة، الثقافية والاجتماعية والسياسية، هو تعبير ومبدأ العدل والعدالة.. قال تعالى ﴿فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير﴾. إذ هو «العدل» يستوعب كل مفردات التشريع الإسلامي، والعدالة هي أم القيم وتجلياتها جميعا. وفي هذا السياق أيضا تأتي مفردات «العفو - الإحسان - دفع السيئة بالحسنة - الإعراض عن الجاهلين». إذ يقول تبارك وتعالى ﴿والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار﴾. ويقول عز من قائل ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما﴾. وغيرها من الآيات التي تحث المؤمنين على تجسيد هذه القيم في حياتهم وأحوالهم المختلفة.
وإن هذه القيم بحاجة إلى سياق اجتماعي، يتوجه صوب بناء هذه القيم وإرساء دعائمها لبنة لبنة، وخطوة خطوة. وذلك لأنه من المستحيل أن تتحقق هذه القيم في الفضاء الاجتماعي والإنساني دفعة واحدة، وإنما تنجز بالتدرج والتراكم. لذلك ينبغي أن نقوم بدعم وإسناد كل خطوة في هذا الطريق الطويل والشاق. وإننا من الضروري أن لا نستعجل النتائج. قال تعالى ﴿سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين﴾. ونحن مأمورون دائما بإتباع الأحسن. إذ قال تعالى ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب﴾. فحينما تتطور الظروف وتتبدل الأحوال وتزداد وتيرة المتغيرات، فعلينا استنادا على هدى القرآن الحكيم ونور العقل وبصيرة الإيمان من إتباع الأحسن في القول والفعل. وهذا النهج يؤسس لنا منهجا واضحا في طبيعة التعامل مع مستجدات الحياة وتطوراتها على الصعيدين النظري والعملي. إذ أننا مطالبون من الاستفادة من كل هذه المنجزات والمكاسب على قاعدة [فليأخذوا أحسنه] و”إن ما نعيه من مقصد الشريعة في إثارة العقل، ومخاطبة العقلاء، وفي رفع حجب الشهوات، عن العقل، وفي تنمية الإرادة ضد من يصادروا العقل. إن مراد الشرع من كل ذلك - حسبما نعيه - هو العمل بما يقتضيه العقل والعلم، وبما يكشفان من حقائق الحياة وواقعياتها، فإن كانت الحقائق ثابتة عملنا وفقها، وإذا كانت متغيرة عملنا وفقها“.
والحرية الحقيقية للإنسان تبدأ حينما يثق الإنسان بذاته وعقله وقدراتهما. وذلك لأن التطلع إلى الحرية بدون الثقة بالذات والعقل، تحول هذا التطلع إلى سراب واستلاب وتقليد الآخرين بدون هدى وبصيرة. لذلك فما لم يكتشف الإنسان ذاته ويفجر طاقاته المكنونة، لن يستطيع من اجتراح تجربته في الحرية وبناء واقعه العام على قاعدة الديمقراطية والشراكة بكل مستوياتها.
والعدالة هي الناموس العام والإطار الأكبر الذي يحتوي ويتضمن كل الفضائل والضرورات الدينية والدنيوية. والحرية لا تنمو في واقع إنساني بعيد عن مقتضيات ومتطلبات العدالة. إذ أن الظلم وهو نقيض العدالة، حينما يسود في أي واقع اجتماعي، فإنه يزيد من إفساد الحياة العامة، ويحول دون المساواة والحرية وكل الفضائل الإنسانية. فالظلم هو البوابة الكبرى لكل الشرور والرذائل، كما أن العدالة هي بوابة كل الحسنات والفضائل. ولذلك جاء في الحديث الشريف أن [العدل رأس الإيمان، وجماع الإحسان، وأعلى مراتب الإيمان].
ولو تأملنا قليلا في مضامين الحرية الإنسانية، نجدها حقائق جوهرية في مفهوم العدل والعدالة. فلا مساواة مع ظلم. لذلك فإن طريق المساواة هو أن يعدل الإنسان مع نفسه ومع غيره. كما أنه لا حقوق محترمة ومصانة للإنسان، إذا كان الظلم هو السائد، لأنه هو بوابة انتهاك الحقوق.
من هنا فإن طريق صيانة الحقوق، هو إحراز العدالة بكل مستوياتها وجوانبها.
وهكذا نجد أن كل تجليات مفهوم الحرية، ترجع في جذورها العميقة والإنسانية إلى قيمة العدالة. فهي طريقنا إلى كل الفضائل. ولا حرية خاصة أو عامة بدون عدالة في حقول الحياة المختلفة.
والعدالة كمفهوم في هذا السياق، هي أوسع وأعمق من القوانين والإجراءات الديمقراطية. إذ هي تتعلق بالممارسات والمواقف كما تتعلق بالبواعث والدوافع. فهي الدعامة الأساسية لأي نظام ديمقراطي حقيقي. والنظام الذي يفتقد العدالة، لا يمكن أن يكون ديمقراطيا حتى لو تجلبب بكل شعارات الديمقراطية. فالعدالة هي جوهر الأنظمة الديمقراطية، وهي جسر توسيع رقعة الحرية في مجالات الحياة المختلفة. وعلى هذا فإن الحرية هي ذلك الحيز الذي يستطيع فيه الإنسان التصرف في أموره وقضاياه دون أن يصل إلى ظلم نفسه أو الآخرين. بمعنى أن حدود هذا الحيز الذي يستطيع الإنسان التصرف في فضائه هو العدالة.
فالحرية تتسع وتضيق من خلال علاقتها بقيمة العدالة. وبهذا تتضح العلاقة العميقة في الرؤية الإسلامية بين مفهومي الحرية والعدالة. فلا عدالة حقيقية بدون حرية إنسانية، كما أنه لا حرية بدون عدالة في كل المستويات.
فالحرية لا تعني التفلت من القيم والضوابط الأخلاقية والإنسانية، كما أن العدالة لا تعني قسر الناس على رأي واحد وقناعة محددة. لذلك فإننا ينبغي أن ننظر إلى مفهوم الحرية بعيدا من لغة الحذر والتوجس والتسلسل المنطقي الذي قد يوصل إلى مساواة معنى الحرية إلى التشريع للانحراف والرذيلة، ونعمل على توضيح العلاقة الجوهرية التي تربط معنى الحرية مع مفهوم العدالة. وبالتالي فإن الحرية عامل محرك باتجاه إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الخارجي. كما أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي التي تكرس مفهوم الحرية في الواقع المجتمعي.
وعلى هذا فإننا لا بد أن " نميز بين الحرية كحق اجتماعي والحرية كخطوة وجودية. كحق، لا تشمل الحرية خيار ما هو محرم، ولكن كحالة وعي وجودي فهي تشمل جميع الاحتمالات، كما سبق وبينا. ففي المفهوم الوجودي يستطيع الفرد أن يقرر ما يشاء وهو عالم بتبعات قراره، ولا يحتاج إلى إجازة من أحد، بينما طالب الحق مقيد بما هو مجاز، ومن ذلك شرعية المطالبة بما هو محرم، ولكن ليس باختيار المحرم.
وأخيرا، لا بد أن نتذكر أن ما هو جائز يظل أمرا خاضعا لتفاسير مختلفة، باختلاف الأفراد والجماعات.
المفهوم الاجتماعي للحرية يتعلق بخيارات متاحة في حيز مباح، كالتعبير الخاص والعام عن الآراء والأفكار، والعمل السياسي بمختلف أوجهه، وحرية العبادة والمعتقد، والبيع والشراء والتعاقد وغيرها، وهي في مجملها حقوق محددة المعالم ومكتسبة، وما هو مكتسب بفعل اجتماعي يفقد بقرار اجتماعي. إن نقد الحكومة والقانون في النظام الديمقراطي حق قائم، ولكن مخالفة القانون أو التمرد عليه غير مباح، المباح هو العمل على تغيير الحكومة والقانون بالطرق المشروعة ".
فأجواء الحرية وممارستها تحسن من قدرات المواطنين، كما أن العدالة ومتطلباتها توجه هذه القدرات باتجاه القضايا والموضوعات ذات الأولوية. فكلما تتوسع مساحة تأثير العدالة في المجتمع، فإنه يفضي إلى تكريس قيم الحرية ومفرداتها المتعددة في الأمة والمجتمع والوطن. فالحفاظ على الحرية يقتضي ممارسة العدالة في مختلف المستويات. كما أن ممارسة الحرية تكون في فضاء الالتزام والتقيد بمتطلبات العدالة. لذلك لا يجوز أثناء ممارسة الحرية الإضرار بالغير. فلا يجوز من الناحية الشرعية والفقهية مثلا أن المالك لأرض في حي سكني، أن يبني عليها مصنعا يلوث البيئة والهواء ويؤدي إلى الإضرار بالجيران. فممارسة الحرية في الملكية، ينبغي أن يكون في إطار العدالة. وأية ممارسة تتجاوز هذا الإطار أو تضر به، فإنها تصبح ممارسة غير شرعية. فالإنسان الذي لا يتمتع بالحرية، لا يستطيع إنجاز عدالته. كما أن الإنسان الذي يعيش واقعا اجتماعيا بعيدا عن العدالة وتسوده حالة الظلم واللامساواة، فإنه لن يستطيع أن يدافع عن حريته ويجذرها في واقعه العام.
ولكن لا يمكن أن يتم الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعات ومكتسباتهم الحضارية بدون العدالة. فهي حصن الحقوق، وهي بوابة الأمن الشامل. وبدونها تشيع الفوضى، وتزدهر الفتن والإضطرابات، وتزداد أسباب الاحتقان والانفجار في المجتمع. فالعدالة بمفرداتها «القسط والبر والإحسان» هي التي توفر الأمن والاستقرار في حياة الأفراد والجماعات. فلا فلاح إلا بالعدل، فهو سبيلنا الوحيد لإنجاز الاستقرار والأمن والتقدم. وإن الخروج من سجن التخلف والتأخر إلى رحاب التقدم والحرية والتطور بحاجة إلى العدالة..
وإن جوهر التقدم الإنساني والتطور البشري، هو الحرية، حرية الاختيار والتعبير، ونفي الإكراه بكل صوره وأشكاله، وغياب الحتميات التي تحول دون ممارسة الإرادة الإنسانية.