الفكر العربي بين غربتي الزمان والمكان
في أحاديث سابقة، تناولنا معضلة الفكر العربي، في ما يتعلق بالجدل الدائر بين الأصالة والمعاصرة، لكن ما حرض على الولوج مرة أخرى، في هذا الموضوع، هو قراءتي مؤخراً، لكتاب الفلسفة في الوطن العربي المعاصر، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1985، وأعيد نشره مرة أخرى، عام 1987، عن مركز دراسات الوحدة العربية. وقد تضمن الكتاب بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول، الذي نظمته الجامعة الأردنية، في عمان، في مطالع عام 1985.
ورغم مضي أكثر من ثلاثة عقود، على صدور هذا الكتاب، مرت الأمة خلالها بعواصف وبراكين عاتية، فإن البحوث التي تضمنها الكتاب لا تزال حيوية، ولم تتأثر أطروحاتها بما جرى من أحداث، بل العكس صحيح تماماً، فالانهيارات التي حدثت في الواقع العربي، في العقود الأخيرة، أكدت ما يجره اغتيال العقل العربي، وغياب المنظور الفلسفي من رؤانا الفكرية، من ويلات وخيبات.
اهتمت بحوث المؤتمر الفلسفي المذكور بثلاثة محاور، ذات علاقة مباشرة بالفلسفة العربية. الأول توصيفي، وحمل عنوان مشروع الفلسفة العربية المعاصرة. أما المحور الثاني، فاهتم بنقد الخطاب الفلسفي العربي، مركزاً على النصوص والمناهج. في حين ركز القسم الثالث، على ما ينبغي أن تكون عليه الفلسفة العربية، وحمل عنوان خصوصيات وآفاق.
الأبحاث التي تضمنها المؤتمر، رغم استنتاجاتها، عن الواقع المزري للفكر العربي، وغياب المذاهب الفلسفية في هذا الفكر، فإنها كشفت عن وجود طاقات فلسفية حية، في أمتنا. وبالنسبة إلي أوجدت تلك البحوث الثاقبة والعميقة، حالة من الفرح والحزن في آن معاً. فرح لأن لدينا مخزون يعتد به من المفكرين والفلاسفة الذين شاركوا ببحوثهم في هذا المؤتمر، وقد كشفت تلك البحوث، عن وعي كبير، وإلمام شامل بالفكر الفلسفي الإنساني، ومعظم هؤلاء المفكرين العرب، هم أساتذة جامعات، سوف يسهمون بكل تأكيد في ولادة جيل جديد من المفكرين العرب، الذين سينخرطون في القضايا الفكرية، والفلسفية، ويكون لهم دور في انتصار العقل.
أما المحزن في الأمر، فإن جهودنا الفكرية، ومن ضمها جهود الجامعة الأردنية، تفتقر إلى التراكم. وذلك ما يجعل تقدمنا الفكري، رهناً للمراوحة بين الإقدام والتراجع، بحيث يجعل من الصعوبة تقدم هذا الفكر ونماءه.
معضلة الفكر العربي، كما شخصها الدكتور حسن حنفي، في بحثه الذي حمل عنوان موقفنا الحضاري، تمثلت في غياب الإبداع والخلق، وعدم القدرة على المبادرة. فالأصالي يستعيد الموروث، وعلاقته به هي علاقة الناقل، وليست علاقة المفكك والقادر على استحضار التاريخ، وتمكين الموروث من أن يحيا في زمن غير زمنه. إنه يخاطب الحاضر، بلغة غريبة عليه. وبذلك يفتقر إلى القدرة للتعامل الإيجابي مع الحاضر.
إن أقصى ما يقوم به الأصالي، هو جمع الموروث، من دون تغيير أو تطوير، أو إعادة اختيار، في حين أن التراث القديم ليس منفصلاً عن ثقافتنا، بل هو جزء منا، ونحن جزء منه.
إن الحداثيين، تعاملوا مع أفكار الحداثة تعامل الناقل وليس تعامل المبدع الذي يمتلك القدرة على التوطين. وفي هذا السياق، يؤكد أنه في دعوته للتوطين، لا يهدف إلى تحجيم الغرب، والقضاء على أسطورة عالميته، ولا يدعو الحداثيين العرب إلى الانغلاق، أو العودة إلى جنون الذات، أو رفض التعرف إلى الغير، أو الانفتاح على الآخر. فتلك لم تكن سنة أجدادنا العرب والمسلمين، الذين تفتحوا على الثقافات الأخرى، ونهلوا منها.
لقد كانت الدعوة للانفتاح على العرب في أوائل القرن الماضي، لها ما يبررها بعد سبات العرب الطويل، وأيضاً كرد فعل إيجابي على التحدي الحضاري الذي مثله الغرب، علماً وصناعة وحرية. ولكن بسبب طول فترة التعلم، انقلب الانفتاح إلى نقيضه، وبات نوعاً من التقليد والمحاكاة. فكان أن نشأت ظاهرة التغريب بدلاً من التوطين. فباتت الحضارة الغربية هي النمط الأوحد، لأي تقدم حضاري، ولا نمط سواها. وأن على أية أمة ترنو إلى التقدم أن تسير على منوال هذه الحضارة.
وهكذا بات تصور لدى دعاة المعاصرة أن الغرب هو ممثل الإنسانية جمعاء، وأوروبا هي مركز الثقل في الحضارة الإنسانية.
وتحصر المعضلة في أبعاد ثلاثة، أن مجتمعنا لا يزال مجتمعاً تراثياً، فالقدماء هم السلطة المعرفية في المجتمع العربي. والثاني، هو الموقف من التراث الغربي الذي بات أحد الروافد الرئيسية لوعينا، وأحد مصادر المعرفة المباشرة، لثقافتنا العلمية والوطنية. أما البعد الثالث، فهو موقفنا من الواقع الذي نعيش فيه، والذي نحتويه في شعورنا بوعي، أو غير وعي. إن هذا المثلث ذا الأبعاد الثلاثة، هو مثلث غير متساوي الأضلاع، الأضعف فيه هو الضلع المتعلق بنا، وبحاضرنا. أما الضلعان الآخران، فيتنافسان على اكتسابنا. وعلينا تقوية البعد الخاص، بنا، من خلال خلق الثقافة والفكر، الذي يليق بنا، وبحاضرنا، والذي يمكننا من أن نكون ترساً فاعلاً في مسيرة الحضارة الإنسانية المتجهة إلى أمام.