آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

المجتمع الخليجي والتغيرات في الثقافة والتقاليد

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في واحدة من حلقات سيلفي، أبدع الفنان السعودي القدير والمتميز، ناصر القصبي، في رصده للتحولات الاجتماعية والثقافية التي جرت في منطقتنا بالعقدين المنصرمين. والواقع أن هذه التغيرات بدأت تأخذ مكانها بشكل تدريجي متجهة باطراد إلى الأعلى، منذ باتت دول الخليج العربي، من أكبر البلدان المصدرة للنفط في العالم. وقد غيرت هذه التحولات من عاداتنا وسلوكنا، وأفقدتنا بعضاً من عاداتنا الجميلة. لكن ماكينة التاريخ تسير إلى الأمام، ولا تملك رفاهية النظر إلى الخلف.

لقد بدت بعض هذه التحولات منافية لتقاليدنا الجميلة، وما تعود أناسنا عليه من أريحية، ومن إيثار على النفس، ونبل وعطاء وتضحية. كان المزارع، على سبيل المثال، ينتقل خلال المواسم الزراعية من حقل لآخر، يساعد أقرانه في حراثة الأرض، وتلبية متطلبات العناية بالنخيل في المهام التي تستدعي مشاركة جماعية. وكان الحال كذلك مع صيد الأسماك، وجمع اللؤلؤ. كان هناك شكل منظم، صارم وفاعل، لم يكن له أن يتحقق بنجاح من دون سيادة روح التكاتف والتعاضد. وكان يكفي أن يشتعل حريق في زاوية ما من المدينة، أو القرية، فتندفع الجموع من كل اتجاه صوب ذلك الحريق، بالرمال والمياه، وبكل ما هو متوفر في اليد، مؤدين عملهم بشكل متناسق.

وبعيداً في الصحراء، يتحقق مثل هذا التضامن في شكل تعاضد أسري أولاً، وفي المراعي، ونصب الخيام، والاهتمام بالماشية. وفي صد الهجمات التي تشن على موقع القبيلة، من البشر والوحوش الضارية. وكانت الأبواب تطرق بمناسبة وغير مناسبة، حيث يتحلق الأهل والأصدقاء كل مساء في ديوانيات، ومجالس خاصة، يقيمها الموسرون من أبناء المجتمع.

أما الآن فقد أصبح كل فرد عالماً مستقلاً بذاته. وغيبت أمام الوضع الجديد أشياء كثيرة من جميل الموروث من عاداتنا وتقاليدنا، وتاهت في الزحمة سنن وتشريعات تعلقت بالأهل، والأقارب، والجيران. ما الذي تغير في مجتمعنا حتى يتحول كل فرد فيه إلى اللهث خلف شؤونه، ومصالحه الخاصة، من دون تمسك بروح الخلية الواحدة؟

لعل الجواب الدقيق يقتضي الابتعاد، قدر ما تبيحه المسافة، عن إصدار الأحكام المعيارية والقيمية، وأن نحاول أن نخضع مجمل السلوك الإنساني تجاه المجتمع إلى عوامل موضوعية بحتة، واعتبار السلوك الأخلاقي الجمعي هو أحد تجليات تلك العوامل. أو ليس ما يميز الإنسان حسب تعريف بعض العلماء، أنه ذو تاريخ. والتاريخ يعني الحركة. وعلى هذا الأساس، يمكننا فهم ما جرى في السابق بمنطقتنا، وما يجري الآن، ليس على أساس التسليم بما كان، وما هو كائن، ولكن من أجل صياغة موقف وحلول جديدة للمشكلات التي تعترضنا الآن، وإعادة الحياة، بشكل متجانس مع طبيعة هذه المرحلة لروح التضامن والتعاضد بين أفراد المجتمع.

يقيناً أن قراءة الواقع الاجتماعي الذي كان سائداً من قبل وتفكيك مكوناته، سيساعدنا على الفهم. إن هناك ضرورات تاريخية تحكم حركة الناس، وتشكل عاداتهم وتقاليدهم وسلوكهم، وأنماط عيشهم. وقد كانت تلك الضرورات تقتضي بروز نماذج التعاضد والتضامن التي كانت قائمة من قبل. لقد كان من المستحيل أمام انعدام القدرات والإمكانات المتاحة الآن أن يوفر كل فرد أسباب معاشه، من دون أن يكون عضواً فاعلاً في الخلية الاجتماعية التي ينتمي إليها. لم تكن هناك مكننة للزراعة، ولا عمالة وافدة، ولا مراكز للدفاع المدني، ولم تكن لدى الناس السيولة النقدية لتوفير حاجاتهم المادية، وأسباب معاشهم منفردين. فكان لا بد أن يتم تنظيم حركة المجتمع على أساس جماعي، بحكم الضرورة، ومن أجل استمرارية الحياة، بشكل أقل عناء، ومرارة، وتكلفة. وكان غياب وسائل الترفيه، ووسائل الاتصال الحديثة يجعل الناس يلجؤون إلى بعضهم بعضاً طمعاً في معرفة ما يجري من حولهم. لم يكن هناك مذياع، أو هاتف، أو تلفاز.. ولا وسائل نقل حديثة، وقائمة المتغيرات والمستجدات، في حقبتنا طويلة، وعصية على الحصر.

جاءت طفرة النفط، بشكل فجائي، وتزامنت مع وفرة في السيولة النقدية، في أرض بكر تتهيأ لتأسيس بنيتها التحتية، فانغمسنا في الحراك الجديد، نلهث وراء ما يمكن تحقيقه من الثراء، والجاه. وتمكنا من تشييد منازل جديدة، وأشكال حياتية مغايرة، ورفعنا أسواراً عالية على الأرض، وفي النفس. وحدثت تغيرات كبيرة، وواسعة في أنماط حياتنا، وبالتالي في طريقة تعاملنا، وأنماط سلوكنا. وجاءت وسائل الترفيه لتقضي على البقية الباقية من اهتماماتنا بالمجتمع والناس.. فلدينا في البيت ما يغني ويزيد. لدينا الجو المنزلي المريح، ووسائل التكييف التي تجعل حياتنا أكثر انتعاشاً، ولدينا الهاتف، والمذياع، والتلفاز، والحاسب الآلي، والإنترنت أيضاً. وبإمكاننا أداء الكثير من مشاغلنا، واحتياجاتنا من داخل المنزل.

تغيرت أنماط العلاقات الاجتماعية بشكل كبير، فنحن لم نعد شركاء في حقل أو عمل، بل عمالاً أو موظفين، نرتبط بعلاقة زمالة، لا علاقة مصلحة، والفرق كبير بين العلاقتين، فالمحرك للأولى هو وشائج إنسانية محضة، لا تمثل قيداً أو إلزاماً، مهما كان نبل مقاصدها، بينما هي في الثانية ضرورة حياتية ملحة، ترقي إلى الكينونة والوجود، بشكل أقل توتراً وعناء.

وكلما أصبحت وسائل الترفيه أكثر توفراً كلما ارتفعت العوازل والفواصل وترسخت الأسوار، وتراجعت قيم التعاضد والتضامن والتكاتف.

كيف السبيل إذاً، لمعالجة هذا الخلل؟ وهل يمكن أن نقول عن مجتمع تنعدم فيه الروابط الإنسانية ووشائج الحب إنه مجتمع سليم. وهل في إمكاننا أن نغفل عن حقيقة التحديات الخارجية والداخلية التي تواجه مجتمعاتنا في هذا المنعطف من التاريخ؟

لا مناص من اجتراح إبداعات جديدة لمواجهة هذه المعضلة، ضمن الواقع الموضوعي الجديد. ولعل هذا هو ما يجعل الدعوات المتكررة لإنشاء مؤسسات المجتمع المدني ضرورة ملحة، ليس لمعالجة الاحتقانات الاجتماعية فقط، ولكن أيضاً لاستعادة المغيّب الجميل من موروثنا، وجعل روح التعاون والتضامن الجماعي تنبض من جديد.