المؤرخ جواد الرمضان منارة أحسائية رائدة
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وسلام على عباده الذين اصطفى.
المؤرخ الحاج جواد بن حسين بن محمد الرمضان، هو من مواليد الأحساء عام 1355 هـ ، أحد الباحثين الذين رصدوا تاريخ الأحساء شفهيا وتدوينا، وهو ممن كان لهم إسهام كبير في حفظ شيء من تراث الأحساء، فهو يستحق بجدارة أن يطلق عليه لقب ”منارة أحسائية رائدة“ في تدوين تاريخ الأحساء الحديث. وهو أحد أعضاء مجلس إدارة نادي المنطقة الشرقية الأدبي سابقا. وهو كاتب ومؤرخ وأديب.
نحن أمام شخصية أحسائية استثنائية من حيث نتاجها التأريخي والأدبي. أصبح قبلة لكثير من الباحثين والمهتمين بتاريخ منطقة الخليج. مع أن الظروف الاجتماعية والمعيشية وقفت ضد المؤرخ جواد الرمضان في إكمال تعليمه للحصول على شهادة المرحلة المتوسطة بسبب تنقله وسفره بين الأحساء والبحرين وسوريا، ورغبة إخوته في أن يتعلم مهنة أبيه وأجداده وهي مهنة خياطة البشوت. لقد ختم القرآن الكريم على يد ملا صالح بن عبدالله العامر قبل التحاقه بالتعليم النظامي. وفي البحرين التحق بالمدارس الليلية في جمعية الصادق وهذه الجمعية كانت تعرف في السابق بنادي العروبة، وفي هذه الجمعية درس الحساب واللغة الإنجليزية والمطالعة وتعلم الخط العربي، ولكن لم يعط شهادة على دراسته. وأيضا درس اللغة الإنجليزية في مدرسة أخرى، في منزل السيد رضي الموسوي.
حصل على الابتدائية في سوريا وأكمل دراسته النظامية هناك حتى السنة الثالثة المتوسطة ولم يكملها بسبب رجوعه إلى الأحساء. ولم يستطع إكمال الكفاءة في الأحساء بسبب أن عمره أكبر من السن المسموح به للالتحاق بالمدرسة المتوسطة، وبهذا ضاع حلمه للالتحاق بالمعهد العلمي في الهفوف.
فعندما لم يتحقق ما كان يصبو إليه من الحصول على تلك الشهادة العلمية، قرر المؤرخ الرمضان التوجه إلى البحث في التراث بالاعتماد على الجهد الذاتي في المطالعة والقراءة والبحث وتحقيق الوثائق والمخطوطات، وقام بالسفر إلى بلدان كثيرة للحصول على معلومة معينة أو مخطوطة هامة أو وثيقة ذات قيمة معرفية. فصنع لنفسه مدرسة تراثية فريدة من نوعها مهتمة بالتراث الأدبي والتاريخي لمنطقة الخليج. كما أن مدرسته اهتمت أيضا بأنساب العائلات والأسر الخليجية المقيمة في المنطقة وقام بتتبع العائلات والأسر المهاجرة إلى مناطق أخرى.
كتاب وتكريم:
تلقيت دعوة كريمة من الصديق العزيز أبي اليسع المهندس عبد الله الشايب للمشاركة بمقالة ضمن كتاب يُعد عن المؤرخ الكبير جواد الرمضان للمشاركة به في حفل التكريم الذي يُعده النادي الأدبي بالأحساء لتكريم الشيخ الرمضان ضمن برنامجه السنوي في شهر رمضان المبارك. فللمهندس الشايب جزيل الشكر على هذه الدعوة الكريمة حيث أتاح لي هذه الفرصة لأكتب ولو شيئًا بسيطًا عن أحد أعلام الأحساء الكبار المعاصرين، والذي له بصمة بارزة في تشكيل وإبراز تاريخ الأحساء الحديث وما احتضنت أرضها من علماء وأدباء وشعراء وغيرهم.
في هذه المقالة القصيرة سوف أتناول جانبين من حياة الشيخ الرمضان العلمية وأثرهما في محيطه الأدبي والتاريخي. الجانب الأول هو التاريخ الشفهي كأسلوب وظفه الشيخ الرمضان لتدوين تاريخ الأحساء الحديث. والجانب الثاني هو جمعية المؤرخ الرمضان حيث يلتقي الباحثون والمهتمون بتراث منطقة الخليج في منزله المبارك.
أولا: التاريخ الشفهي:
من المسلمات البديهية أن القرآن الكريم نزل شفهيًّا على قلب رسول الله ﷺ عن طريق الوحي من قبل جبريل . قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾[1] . ومن ثم تم تدوينه في الكتب والصحف والقراطيس والرقاع كما أُنزل شفهيًّا من غير زيادة ولا نقص. ولم يكن الهدف من تدوين القرآن الكريم هو حفظه، حيث تكفل الباري عز وجل بحفظ الكتاب العزيز وتعهد بذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[2] ؛ وإنما كان الهدف من تدوينه في كتاب واحد بين دفتين هو ليتوارثه الأجيال، جيل بعد جيل، كما أُنزل على قلب النبي الخاتم ﷺ.
ومن هذه القيمة التدوينية للقرآن الكريم نستنتج أنه ينبغي أن يُكتب التاريخ المُعاش بكل تجرد كما هو، حتى يكون ما دوّن في الكتب عن حقبة تاريخية معينة يعكس حيثيات الحياة المُعاش فيها على حقيقتها من غير تزويق ولا تجميل.
ويتم تدوين التاريخ المعاش بطريقتين، وهما:
1 - الطريقة المباشرة وذلك بتدوين أحداث التاريخ المعاش من قبل المؤرخ نفسه عن أحداث عايشها أي شهِدها وشاهَدها.
2 - الطريقة غير المباشرة وذلك بأخذ تفاصيل أحداث التاريخ المعاش شفهيًّا عن شخصيات عاصرها المؤرخ، وذلك لأنه لم يشهد تلك الأحداث إما بسبب البعد الزمني أو البعد الجغرافي. وهذه الطريقة الثانية هي ما أود الحديث عنها في هذا المقال، وهو تدوين التاريخ الشفهي عن طريق المقابلة إما استماعًا أو محاورةً.
من المعروف لدى الباحثين أن معظم تواريخ العالم بما فيها التاريخ الإسلامي، كانت شفهية ثم كُتبت، حيث بدأت شفهية عن طريق الرواية المتناقلة والإسناد المتواتر أو المنقطع. وما زالت الشهادة الشفهية حاضرة وبقوة في مرحلة التدوين كمصدر مهم للخبر التاريخي.
ويعرّف التاريخ الشفهي بأنه: «تسجيل وحفظ وتفسير المعلومات التاريخية لأشخاص مهمِّين، أو أشخاص عاصروا أحداثًا هامَّة اعتمادًا على خبراتهم الشخصية، أو ما سمعوه من أحداث، أو بمعنى أشمل؛ إنه التاريخ المروي عن الآخرين» [3] .
ومن الذين برزوا في تدوين التاريخ الشفهي في الأحساء هو شيخ المؤرخين الحاج جواد الرمضان. حيث دأب على ممارسة هذا الفن لأكثر من 60 عامُا، منذ أن قرر أن يلج مجال البحث والتنقيب في تراث الأحساء.
ومن ذلك الحين قام المؤرخ الرمضان بمقابلات وجها لوجه مع كثير من رجالات الأحساء من علماء وخطباء ووجهاء ورجال أعمال وأطباء ومهندسين ومهنيين وحرفيين، شيوخًا وكهولًا، ليدون كل ما له علاقة بالحقبة الزمنية التي عاصروها، في كثير من المجالات. وبحكم اهتمامه أيضا بالأنساب فقد قابل كثيرًا من العائلات لتدوين أنسابهم ومشجراتهم. فأصبح لدى الشيخ الرمضان كما هائلا من المعلومات التاريخية عن تاريخ الأحساء ورجالاتها، وقد مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بذاكرة قوية، وما زالت ذاكرته نشطة وقوية ولله الحمد مع أن عمره المبارك بلغ 83 سنة. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يطيل في عمره في خير وصحة وعافية.
أمالي الرمضان بقلم سلمان:
شجع المؤرخ الرمضان كثيرًا من الباحثين في سبر غور هذا الفن، أي تدوين التاريخ الشفهي. وقد برز في هذا المجال على سبيل المثال الباحث الأستاذ سلمان بن حسين الحجي. فقد قام الحجي بحوارات كثيرة مع كثير من رجالات الأحساء ونتج عن ذلك كتابان، وهما كتاب بعنوان «هكذا وجدتهم» وكتاب بعنوان «آباء وأجداد».
وللحجي كتاب ثالث بعنوان «أمالي الرمضان بقلم سلمان»، وهو عبار عن حوار دار بين الأستاذ الحجي والمؤرخ الرمضان. وقد امتد الحوار بينهما إلى خمسين جلسة، حيث استهلت الجلسة الأولى في تاريخ 28 ربيع الأول 1432 هـ الموافق 3 مارس 2011م، وانتهت الجلسة الخمسون في تاريخ 10 رجب 1433 هـ الموافق 31 مايو 2012م. وقد امتدت بعض الجلسات إلى عدة لقاءات[4] .
ويعتبر هذا الكتاب سيرة ذاتية للشيخ جواد الرمضان أملاها الشيخ نفسه على الباحث سلمان الحجي. حيث أملى عليه سيرته بكل تفاصيلها منذ نعومة أظفاره إلى حين انتهى من الجلسة رقم 50. وقد ضمّنها معلومات نوعية وغزيرة متعلقة بالأحداث التي عاصرها، والأماكن التي زارها، والشخصيات التي قابلها، والمهن التي كان يزاولها هؤلاء الأشخاص. كما تحدث عن الأدوات المستخدمة من قبل الناس في كثير من شؤون حياتهم، والآلات التي كانت تستخدم في مهنهم وحرفهم.
وقد تحدث الشيخ الرمضان عن المدارس التي تعلم فيها بالأحساء والبحرين وسوريا، وتكلم بالتفصيل عن المعلمين الذين تتلمذ على أيديهم. كما تكلم عن الجمعيات والأندية الثقافية المختلفة. وتحدث كثيرًا عن عشقه العميق للقراءة مع ذكر كثير من المكتبات التي تردد عليها. وتكلم عن بعض الكتاتيب وروادها في الأحساء من كلا الجنسين رجالا ونساءً.
وتكلم الباحث الرمضان عن حبه للبحث والتنقيب في التراث، وعن اقتنائه للكتب والمخطوطات والوثائق التي تهتم بالتراث. وفي هذا المجال قابل كثير من رجالات الأحساء المهتمين بالتراث. وذكر كثيرًا من الشخصيات والبيوتات التي بذلت الوثائق التي بحوزتها دعمًا للبحث العلمي.
وتحدث الرمضان عن العلماء والخطباء والأدباء والشعراء الذين جالسهم وحاورهم واستنطقهم فيما كانوا مهتمين فيه، وبالذات عن تراث منطقة الخليج.
وتكلم كثيرًا عن رحلاته إلى البحرين والكويت وقطر وسوريا والعراق وإيران وغيرها من الدول، وقام بتدوين انطباعاته عن تلك البلاد والأماكن التي زارها وعن الشخصيات التي قابلها. مع ذكر كثير من المواقف الطريفة التي حدثت في رحلاته.
يعتبر هذا الكتاب مادة أولية للباحثين والمهتمين بتاريخ الأحساء وإنسانها وتراثها، لما يحتويه من معلومات قيمة وبشكل مفصل قلّما تجده في كتاب آخر. ويعتبر أيضًا كتاب معرفي للمثقفين للتعرف على تاريخ الأحساء وتراثها، وبالذات التاريخ الحديث للأحساء الحبيبة، القريب من عصرنا الذي نعيشه.
ثانيًا: جمعية المؤرخ جواد الرمضان:
كما قلت أعلاه صنع الشيخ الرمضان لنفسه مدرسة تراثية فريدة من نوعها مهتمة بالتراث الأدبي والتاريخي لمنطقة الخليج. كما أن مدرسته اهتمت أيضا بأنساب العائلات والأسر الخليجية المقيمة في المنطقة وقام بتتبع العائلات والأسر المهاجرة إلى مناطق أخرى.
ومنذ أن بدأ الكتابة إلى يومنا هذا وما يزال قلمه سيالًا بكل ما هو جديد في تحقيق التراث والأدب والتأريخ. حتى تكونت لديه باقة رائعة من البحوث والمؤلفات القيمة التي يهرع إليه الباحثون لينهلوا منها، وإن كان ما زال معظمها مخطوطًا. نسأل الله سبحانه وتعالى أن نرى هذه البحوث والمؤلفات مطبوعة ومنشورة لتكون في متناول اليد للباحثين والمثقفين.
كثيرًا ما يغرقك هذا المؤرخ الكبير ”أبو حسن“ بكرمه وتواضعه الجم. مع ما عنده من مشاغل كثيرة مرتبطة بالبحث والقراءة والكتابة إلا أنه يُقدم بكله على الباحثين الذين يترددون على مجلسه المبارك، وذلك لتشجيعهم ودعمهم ومباركة نتاجهم البحثي.
جمعيته المباركة:
جمعية نسبة إلى يوم الجمعة، حيث يجلس المؤرخ جواد الرمضان في مجلسه المبارك في حي الأندلس بالهفوف من الساعة التاسعة صباحًا إلى الساعة الحادية عشر صباحًا من كل يوم جمعة. حيث يلتقي عنده الباحثون من طلبة العلوم الدينية، والأدباء، والشعراء، والمؤرخين، والمهتمين بتحقيق التراث والأنساب. ورواد مجلسه معظمهم من الخليجيين: من الأحساء، والدمام، والقطيف، والكويت، والبحرين، وقطر. ويأتي الباحثون إلى مجلسه المبارك لينهلوا من علمه ومعرفته بكل ما يتعلق بتراث وتأريخ الأحساء وما جاورها من الحواضر الخليجية، ويأتون إليه إما ليسألوه عن معلومة أو يتحققوا من معلومة، أو يطلعوه على نتاجهم العلمي والفكري من بحوث وكتب في كثير من المجالات.
تشعر في حضرته وكأنك في رحلة سياحية إلى أعماق التأريخ والجغرافيا. حيث يأخذك بكل جوارحك من الزمن الحاضر إلى ذلك الزمن الغابر، فيسرد لك الشواهد التاريخية، ويصف لك البلاد والعباد بأسلوب أدبي شيق، وبلهجته الأحسائية ”الرمضانية“ المحببة للسامع، فترسخ تلك المعلومات في ذهنك، وكأنك عشت في تلك الحقبة التاريخية.
لن تخرج قط من مجلسه خالي الوفاض، في كل مرة تزوره في مجلسه المبارك، قطعًا سوف تضيف معلومة جديدة - بل عدة معلومات - إلى بنك معلوماتك. وربما حصلت على نسخة من كتب الباحثين الذين يتوافدون عليه، وما أكثرهم.
مجلس المؤرخ الرمضان يعد خلية نحل لكثرة الباحثين الذين يترددون عليه في يوم الجمعة، هذا باحث داخل وذاك باحث خارج. أحيانًا يكتظ المجلس بالباحثين، فينسحب من أتى مبكرًا ليفسح المجال لمن أتى متأخرًا. يخرج بعضهم وفي صدره حسرة لما سوف يفوته من حديث شيق وعلم ومعرفة قد يستعرضها الباحث الذي دخل توًا. يخرج وهو يحدوه الأمل أن يأتي في الأسبوع القادم لينهل من معين هذا المؤرخ الكبير والأديب الفذ.
وكما يجلس الشيخ الرمضان هذه الجلسة العامة، له جلسات خاصة مع كثير من الباحثين لتزويدهم بالمادة العلمية التي تتناول اهتماماتهم التأريخية والأدبية وغيرهما من جوانب التراث. وقد دعاني الشيخ الرمضان عدة مرات لحضور بعض هذه الجلسات الخاصة.
فهنيئا للباحثين والوافدين والزائرين لهذا العَلَم العَيْلم والمؤرخ الكبير والباحث المميز والرائد في تحقيق التراث في منطقة الخليج.