تعلم علم غيرك
انطلاقا من ضرورة الاستفادة من مناسبات ذكرى أئمتنا وعظمائنا يجب أن نستلهم من أقوالهم وأفعالهم المداليل الرفيعة التي ينبغي أن نضعها دستور حياة نسير على وفقه.
ها نحن في منتصف هذا الشهر الفضيل نعيش ذكرى ميلاد الإمام الحليم الإمام الحسن سيد شباب أهل الجنة يجدر بنا أن نستلهم من كلماته ذات المضامين العالية المدلولات المحفزة لننتفع بها في حياتنا العملية ونضفي على منظومتنا المعرفية رؤاً متسقة مع ديننا الإسلامي.
يروى عن الإمام الحسن هذه الكلمة:
«علم الناس علمك وتعلم علم غيرك، فتكون قد أتقنت علمك وعلمت علم غيرك».
هذه الكلمة حافلة بمدلولات عظيمة الشأن، بيد أني أثرت أن أقف أمام مقطع منها وهو «تعلم علم غيرك»، وسأحاول من خلاله مقاربة مسألة تنطوي على حساسية بالغة وهي دراسة الفلسفة والانكباب على التحقيق فيها في الحوزات العلمية.
كانت الحوزات العلمية تقف موقفا سلبيا من الفلسفة ودارسيها، وتعتبر الخوض في غمار الفلسفة نوعا من المروق في الدين، والتعمق فيها يؤدي بالفرد إلى تلاشي صفائه الديني. فلا ترى الحوزات علما يستحق الأهمية وبذل الجهود المضنية وصرف العمر من أجله إلا الفقه والأصول، وسوى ذلك هرطقة لاجدوى من ورائها.
إلا أن المتابع للشأن الحوزوي يلاحظ أنه منذ أربعة عقود شهدت دراسة الفلسفة انفراجة وإن كانت ليست على المستوى المأمول بسبب قوة التيار المضاد للدراسات الفلسفية عددا وعدة، فضلا عن الرؤية التي تسود بعض الحوزويين عن دارسي الفلسفة، إذ ينظر إليهم بنوع من التهوين في مقامهم وشأنهم العلمي.
وخير شاهد على النزعة السلبية التي كانت موجودة في الحوزة اتجاه الذين لهم اهتمامات بارزة في الفلسفة، ما عاناه الفقيه الفيلسوف المفسر السيد محمد حسين الطباطبائي لتحمله عبء مسؤولية التحقيق الفلسفي، إذ دفع الثمن باهضا، حيث لم يحظ بالتقدير اللائق به كفقيه عند بعض الأوساط الحوزوية. فحظه من التقدير والتبجيل لم يكن بقدر ما قدمه من خدمات جليلة لإثراء منظومة المعرفة الإسلامية، وخصوصا المعارف المغفول عنها كالتفسير والفلسفة.
وهذه النظرة الحالكة اتجاه الفلسفة ودارسيها منطلقة من الأسئلة التالية:
- أ ليست الفلسفة والميتافيزيقيا علما أجنبيا من أصل يوناني، وصل الدولة الإسلامية في عهد المأمون عندما طلب من حنين بن إسحاق ترجمة كتب حكماء اليونان إلى العربية، وبالتالي الفلسفة ليست من علوم الحضارة الإسلامية ولا صلة للدين الإسلامي بها؟
- ما الجدوى من دراسة الفلسفة والميتافيزيقيا؟ وماذا تضيف للحقل المعرفي الإسلامي من إضافة؟ وماذا تضفي على إيمان الإنسان المسلم بربه؟
- أ ليست الفلسفة تتابين مع الدين في المنهج، حيث الدين منهجيته إيمانية تسليمية والفلسفة منهجيته نقدية تفكيرية تحليلية؟
نعم، الفلسفة ليست من علوم الحضارة الإسلامية، بل من علوم الحضارة اليونانية، ومن خلالها اكتسبت شهرة واسعة.
بيد أن ثمة أمر لا يمكن إغفاله في هذا الصدد وهو أن الفلسفة تعود لليونانيين تأليفا وتصنيفا، لكن مسائلها المهمة محفورة في أعماق كل فرد فطريا، إذ تجده يتساءل عن مجموعة أسئلة تتعلق بنفسه ووجوده، كالأسئلة التالية:
من أنا؟ من أين أتيت؟ ولماذا أتيت؟ وإلى أين سأذهب بعد هذه الحياة؟ هل أنا حقيقة أو وهم؟ هل وجودي في هذه الحياة صدفة أم لا؟ ونحو ذلك من الأسئلة.
جميعها أسئلة فلسفية ميتافيزيقية ماورائية فطرية، أي أنها تشير إلى أن الإنسان يبحث عما وراء الطبيعة والحواس، وهذا يعني البحث عن الكائن المتعالي عنها.
وعلى هذا يتضح لنا بأن دراسة الفلسفة وبذل الجهد في تحقيق قضاياها ومسائلها ليست ترفا فكريا، بل استجابة لرغبة داخلية ملحة في الإنسان وهي التعرف على حقيقة ذاته ووجوده ككائن في هذا الكون ومعرفة منشؤه.
وبها يصل الإنسان إلى إشباع فضوله المعرفي ويخرج عن دائرة التيه والضياع التي تسببه له تلك الأسئلة الماورائية الفطرية إن لم يجد جوابا محكما متينا مقنعا مشيدا على أساس عقلي.
من هنا نفهم بأن كون الفلسفة علما منشؤه يوناني لا يمنحنا التبرير على اتخاذ موقف سلبي منه، بل العكس هو الصحيح مادام اتضح لنا جدواه.
واتخاذ الموقف السلبي من الفلسفة استنادا لكونها ليست من علومنا أمر يتعارض مع مقولة الإمام الحسن التي تنطوي على حث صريح إلى تعلم علوم الآخرين مادامت تعود علينا بالنفع العميم والخير الوفير.
وهل هناك نفع عميم وخير وفير أفضل من تعلم علم يشكل لنا قاعدة تعيننا على معرفة الذات الإلهية وذواتنا وعلاقتنا بالكون؟ هذا النفع العميم هو الذي دفع الفلاسفة المسلمين كابن سينا والفارابي وصدر المتألهين والطباطبائي والمطهري وغيرهم بأن ينشغلوا بالفلسفة تمام الانشغال تحقيقا وتنقيبا وتأصيلا وابتكارا وإبداعا، فانعقدت لهم لواء الصدارة في هذا الفن وغدت أفكارهم مادة للحوارات العلمية والمساجلات الفكرية والأطروحات الأكاديمية. وأما بخصوص دعوى تعارض الدين مع الفلسفة في المنهج، فهذا القول يجانب الصواب، إذ بقليل من التأمل والتتبع في القرآن الكريم سنجد فيه آيات كثيرة تحث حثا منقطع النظير على التفكر والتعقل والتدبر، والفلسفة مرتكزة على التفكر والتعقل، فأين إذا التعارض بين الدين والفلسفة؟!!
قال الله تعالى: «كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون»
«كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون» فمعرفة النهج الذي تسلكه الفلسفة الإسلامية تبعث النفس عن النأي عن اتخاذ موقف سلبي منها ولا ننكر على الفلاسفة المسلمين جهودهم في تشييد بناء هذا الحقل المعرفي الذي باتت الحاجة إليه ملحة.
جهود الفلاسفة المسلمين موضع فخر، إذ بأطروحاتهم الإبداعية قدموا للبشرية حلولا لكثير من المعضلات الفلسفية الغيبية. فصدر المتألهين من خلال نظريته أصالة الوجود واعتبارية الماهية فتح آفاقا رحبة لحل معضلات كثير من المسائل الفلسفية وكذلك نظرية الحركة الجوهرية التي قدمت تفسيرا فلسفيا مقبولا لحقيقة النفس وعلاقتها بالبدن.
وقبل الختام لايفوتني التنبيه على أمر في غاية الأهمية ألا وهو استفادة الفلاسفة المسلمين من آراء الفلاسفة اليونايين ليس على نحو المحاكاة والتقليد والتبعية، بل استفادة المحققين المبدعين المبتكرين ولذا أسسوا لأنفسهم منهجا فلسفيا لا يتعارض مع الدين، فأبدعوا وابتكروا نظريات أزالت كثيرا من العتمة عن كثير من القضايا الميتافيزيقية.
وآخيرا دعونا نسأل أنفسنا التساؤل التالي:
هل إمامنا ومقتدانا الإمام الحسن يدعونا على الانفتاح على علوم الآخرين والاستفادة من النافع منها أم يدعونا إلى التقوقع والانغلاق على ذواتنا بذريعة الخشية من تلويث معارف غيرنا لمعارفنا؟