الاستراتيجية الصهيونية ونكسة يونيو
الذرائع التي يطرحها الصهاينة لشن حروبهم، هي ضمن الأدوات التي تستثمر لخدمة الأدوات الاستراتيجية الصهيونية، وأن هذه الاعتداءات تأتي ضمن سياق هدف منع الدول العربية من بناء قوتها العسكرية
لم تكن نكسة الخامس من يونيو 1967 حدثا عابرا في التاريخ العربي المعاصر. لقد شكلت هذه النكسة انتقالا استراتيجيا في السياسات العربية، وبشكل خاص تجاه الموقف من الصراع مع الصهاينة. وذلك أمر بديهي جدا، ذلك أن الجيوش دول المواجهة، التي باتت تسمى دول الطوق، قد فشلت في المواجهة العسكرية مع العدو، ومكنت الكيان الغاصب من مضاعفة المساحات التي احتلها في حرب النكبة عام 1948، عدة مرات. سقطت شبه جزيرة سيناء بأكملها، ومعها قطاع غزة، على الجبهة المصرية. وعلى الجبهة الأردنية، سقطت الضفة الغربية والبقية الباقية من مدينة القدس. وعلى الجبهة السورية سقطت مرتفعات الجولان.
لم يكن هناك عنصر مفاجأة في هذه الحرب، فكل المؤشرات التي سبقتها كانت تؤكد بما لا يقبل الجدل أن الأمة العربية مقبلة على حرب مع العدو، بل إن القيادة المصرية قد تنبأت بموعد الهجوم الإسرائيلي بدقة متناهية.
ولعل تقادم الأيام، وبروز أجيال جديدة، لم تعايش أحداث تلك النكسة، يستدعيان مرورا سريعا، على التطورات والعوامل التي أدت إلى اندلاع الحرب مع الكيان الصهيوني، الحرب التي انتهت بالنكسة.
كانت الأجواء عموما مشحونة في المنطقة العربية بأسرها. قبل ثلاث سنوات من هذه الحرب، عقد الزعماء العرب، أول قمة لهم، والهدف الرئيسي من القمة، هو مواجهة المشروع الصهيوني لتحويل مياه نهر الأردن لصحراء النقب «الإسرائيلية»، وقد اتخذ القادة العرب في هذه القمة أربعة قرارات تاريخية مهمة. أولها توقيع معاهدة الدفاع العربي المشترك، والثاني تشكيل قيادة عسكرية مشتركة تحول دون تنفيذ الصهاينة مشروعهم في تحويل مياه نهر الأردن. والثالث، تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، كيانا يمثل الفلسطينيين، حيثما تواجدوا في داخل الأرضي الفلسطينية المحتلة وخارجها. والرابع هو تأسيس جيش تحرير فلسطيني.
وأثناء ذلك، وفي مطلع عام 1965، أعلنت حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»، بدء عملياتها العسكرية، ضد الصهاينة، منطلقة من جبهات عربية ثلاث: سورية والأردن ولبنان. والهدف المعلن لهذه العمليات هو تحرير فلسطين، من النهر إلى البحر. وقد اعتبر هذا التطور في حينه، ردة فعل على قرارات القمة العربية، وتأسيس منظمة التحرير، بقرار من القمة العربية، وبشكل متسق مع سياسات الدول التي رعت تأسيسها.
كانت ردة فعل الكيان الصهيوني على قرارات القمة العربية، وإعلان حركة فتح انطلاق عملياتها العسكرية، داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، حادة وعنيفة. فقد قامت طائراتها الحربية بعدد من الاختراقات للأجواء السورية، واشتبكت مع الطيران السوري. وبات واضحا الخلل في التوازن بين القوتين. حيث تمكن الطيارون الصهاينة من إسقاط الطائرات السورية، التي حاولت التصدي لعدوانهم.
وعلى الجبهة الأردية، قامت القوات الصهيونية باعتداء كبير على قرية السموع، بالضفة الغربية، تسببت في استشهاد العشرات من المدنيين. واندلعت على إثرها احتجاجات واسعة شملت المدن الرئيسية بالأردن، مطالبة بالقصاص من العدو، ومتهمة دول المواجهة بالفشل والعجز عن مواجهة العدو. وبلغ الأمر بالمحتجين حد اتهام القيادة المصرية، بالاختباء خلف قوات السلام الدولية، التي أقر وجودها على الأراضي المصرية، بصفة قوات مراقبة، بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
وفي سياق التهديد الصهيوني، والاعتداءات المتكررة على سورية والأردن نذكر رئيس أول حكومة إسرائيلية، بعد النكبة، موسى شاريت، أشار في مذكراته، إلى أن الاستراتيجية الصهيونية اعتمدت منذ النكبة، على عدم تمكين دول المواجهة العربية من بناء قوتها العسكرية. ومن أجل ذلك تقرر أن يشن الكيان الغاصب عدوانا على الدول العربية كل عقد من الزمن. وذلك يفسر الحروب الصهيونية المتكررة على العرب منذ نكبة عام 1948 إلى عدوان عام 1956، إلى نكسة عام 1967، من ثم حرب أكتوبر عام 1973، إلى غزو بيروت عام 1982، وهكذا...
بمعنى أن الذرائع التي يطرحها الصهاينة لشن حروبهم، هي ضمن الأدوات التي تستثمر لخدمة الأدوات الاستراتيجية الصهيونية، وأن هذه الاعتداءات تأتي ضمن سياق هدف منع الدول العربية من بناء قوتها العسكرية.
هدد ليفي أشكول رئيس وزراء دولة الاحتلال، بغزو دمشق، إذا لم تمتنع عن تقديم الدعم لحركة فتح. وأكد الاتحاد السوفييتي رصد استخباراته وجود حشود عسكرية إسرائيلية ضخمة على الحدود السورية. وقد دفع ذلك بالقيادة السورية في حينه، إلى توقيع معاهدة دفاع مشترك مع القيادة المصرية. وعلى إثر ذلك، طلب الرئيس المصري، جمال عبدالناصر، من الأمين العام للأمم المتحدة يوثانث سحب قوات المراقبة الدولية، المتواجدة في شرم الشيخ خارج مصر، وحلت محلها قوات مصرية. وتم الإعلان عن إغلاق مضائق تيران. والتحق الأردن بمعاهدة الدفاع المشترك التي وقعتها مصر مع سورية. وبدأت المنطقة بأسرها تتجه نحو حافة الحرب.
وتكشف لاحقا أنه ليس هناك وجود حقيقي لأي قوية عسكرية، رغم أن العدوان الماثل فوق رؤوس بلدان المواجهة، كان يفترض أن يحرض على بناء قوة عسكرة حقيقية في هذه البلدان.
ضرب سلاح الجو المصري، بأكمله في الساعة الأولى من العدوان. ولم يصمد الجيش الأردني، أمام الاجتياح الصهيوني، وبدأ باستخدام السلاح الأبيض منذ الساعات الأولى للاجتياح. وبعد ذلك تفرغ الجيش الإسرائيلي لهزيمة الجيش السوري. وانسحب الجيش السوري من مدينة القنيطرة قبل سقوطها.
وكانت حقا هزيمة منكرة للعرب، ليس لأن الجيوش العربية لم تنتصر في مواجهة العدوان، ولكن لأنها لم تحارب في الأصل، ولم تكن مهيأة أو مستعدة للحرب بأي صورة من الصور.
ولذلك كانت الإسقاطات النفسية والسياسية لهذه النكسة أكبر بكثير من نتائجها. وبعدها اتجه القادة العرب إلى الحلول السياسية، منذ فوض القادة العرب، حكومتي مصر والأردن للتوصل إلى حل سياسي، لإزالة آثار العدوان.
لقد اختفى منذ ذلك التاريخ، هدف التحرير، وارتفعت رايات المطالبة بإزالة آثار العدوان. ومنذ ذلك الحين والعرب يبحثون عن موقع قدم، ليس فيه مكان للضعفاء.