خمسون عاماً على النكسة
خمسة عقود مرت بالكمال والتمام، منذ أقدم الكيان الصهيوني، في صبيحة الخامس من حزيران/ يونيو على عدوانه الغاشم، على ثلاثة بلدان عربية، وتمكن خلالها من احتلال شبه جزيرة سيناء بأكملها، وباتت قواته ترابط شرق قناة السويس، إضافة إلى احتلال قطاع غزة والضفة الغربية والجزء المتبقي من مدينة القدس، وأيضاً مرتفعات الجولان السورية. وكانت تلك هزيمة شاملة لجيوش دول الطوق، التي كانت تحظى في حينه بشرف حمل القضية الفلسطينية والدفاع عنها، وتسمية دول المواجهة.
ليس من هدف هذا الحديث، تقديم مرثية أو بكائية، ننعي فيها حالنا، فقد قام الأدب السياسي العربي بهذه الوظيفة، وتدخل الشعر والرواية، وعدد كبير من الأفلام السينمائية والمتلفزة، وأيضاً عشرات الكتب بهذه المهمة، وكفونا مؤونة المشاركة في كرنفالات الأحزان.
نحاول أن نفهم في هذه العجالة، لماذا شكل عدوان الخامس من حزيران/ يونيو، نقطة فاصلة في التاريخ العربي، بحيث يمكن القول إن ما حدث بعده لا يشبه ما قبله بأي حال من الأحوال. والأكثر دراماتيكية، هو أن ما بعده، لم يكن استعادة للوعي، بقدر ما كان هرولة للخلف، تجاه رفع الراية البيضاء والتسليم بشروط العدوان، بعد ملاحم بطولية رائعة، شهدتها الفترة التي وسمت بحرب الاستنزاف، وبعد معركة العبور في حرب أكتوبر عام 1973، لتتأكد من جديد أن النصر العسكري لا يعني شيئاً إن لم يردفه فعل سياسي، موازٍ له في القوة، ويملك من الوعي والقدرة ما يمكنه من جعل النصر العسكري، رصيداً حقيقياً في خدمة السياسة.
سيطول الحديث عن كارثة حزيران/ يونيو ويتشعب، بما ليس في طاقة هذه المقالة استيعابه، ولكن السؤال الجوهري، هو لماذا شكّل عدوان حزيران نقطة فارقة في التاريخ العربي، ولم تشكّل هزائم الأوربيين في حربين كونيتين حصدتا عشرات الملايين، نقطتين فارقتين في التاريخ الأوروبي؟ لماذا بقيت الأنظمة السياسية الوريثة للثورتين الفرنسية والانجليزية على حالها، من حيث استمرارية الأنظمة الديمقراطية، رغم أن الأهوال والخراب والدمار الذي شهدته القارة الأوروبية، هو من الضخامة والسعة، بحيث تصغر أمامه خسائرنا وتضحياتنا، في جميع الحروب التي خاضها العرب، ضد الكيان الغاصب، دفاعاً عن حريتهم وكرامتهم؟!
الإجابة على هذه الأسئلة لن تكون مكتملة ما لم نوضع عدوان يونيو في السياق التاريخي والجغرافي والسياسي وأيضاً العالمي. في السياق التاريخي، نحن أمة تبحث عن موضع قدم لها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد شاءت مجموعة من الحقائق السياسية والاقتصادية، أن تعطل مراحل النمو في هذه الأمة. ولذلك كانت البلدان العربية تبحث لها عن ظهير يناصر قضيتها. ولم تكن صدفة أن يتطلع زعماء اليقظة العربية إلى كل من بريطانيا وفرنسا، لكي تناصرا قضية استقلالهم العادلة عن الهيمنة العثمانية. وكان اندلاع ما بات معروفاً بالثورة العربية، قمة استتباع للمشاريع الدولية، بوهم أن ذلك سيقرب العرب من تحقيق أهدافهم في الحرية والاستقلال.
وليس صحيحاً في هذا السياق، أن زعماء اليقظة قد حسبوا بريطانيا وفرنسا دولاً متحضرة ومناصرة للحق العربي. فلم يكن الاستعمار الغربي في منطقتنا وليد لحظة سايكس - بيكو ووعد بلفور، بل سبق ذلك بعقود عديدة، ولكنها البنية النفسية لطبقة تقليدية، لم تتمكن من تجاوز ثقافاتها القديمة، وهي من جهة أخرى ظلت رهينة لافتتان غير محدود بمنجزات القارة الأوروبية في عالمي السياسة والاقتصاد، وأيضاً في بنيانها العلمي والاجتماعي. ويرجع الدكتور سمير أمين ذلك إلى أن تلك القوى التقليدية، هي بحكم وظيفتها التي تسلمتها بعد تدمير الصناعة والموانئ العربية، غير منتجة، وأن علاقتها بالقوى الكبرى، هي علاقة الوسيط، والمستهلك.
تراجع دور هذه القوى التقليدية، بعد وضع اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور موضع التطبيق، لكن القوى التي أعقبتها، لم تكن أفضل منها حالاً. فهي بحكم تكوينها الاجتماعي والنفسي، وريثة لتلك القوى، والأهم من ذلك أنها قوى غير مدنية، قدمت من الريف، وتماهت في حراكها في التحولات الدولية، التي كانت تضع اللبنات الأولى لإزاحة الاستعمار التقليدي، والحلول محله من قبل القوى الدولية الجديدة الصاعدة. وكان الصعود المدوي لنجم حركات التحرر الوطني في القارات الثلاث، من أهم ملامح القرن العشرين، ولم يكن العرب بمنأى عن هذا الحراك، بل كانوا جزءاً أساسياً في ماكنته.
في نهاية الأربعينات من القرن المنصرم، حدثت نكبة فلسطين، مفسحة المجال لضباط الجيش لاستلام مقادير السلطة في عدد من الأقطار العربية. وكانت المقدمة في ذلك قد أخذت مكانها في سوريا، مركز بلاد الشام، الضحية والأكثر تأثراً بنتائج سايكس - بيكو ووعد بلفور. ومن ثم حدث التغيير السياسي في مصر، وكان ذلك عاملاً مسرعاً للحراك الوطني في القارة الإفريقية للتخلص من نير الاستعمار التقليدي، وتحقيق الاستقلال.
ولأن هذا الحراك، لم يكن ذاتياً، بالمطلق بل كان متماهياً مع تحولات كونية، فإنه فقد استقلاليته وقوته المحركة. وبات جزءاً من مخطط الإزاحة الأمريكي للاستعمار التقليدي، أيضاً الصراع العقائدي المحتدم آنذاك بين الشرق والغرب. ولأن ذلك الصراع بين القوتين العظميين: الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة بات أفقياً، فإن من الطبيعي أن ينقسم الوطن العربي، في انتماءاته، بين المحورين.
كسبنا معركة مواجهة العدوان الثلاثي على مصر، ومع عدم التقليل من الصمود الأسطوري لشعب مصر، وتضامن العرب جميعاً مع أرض الكنانة في مواجهة العدوان، فإن العامل الحاسم في إنهاء العدوان، كان الإنذار الروسي، وتواطؤ الرئيس الأمريكي أيزنهاور مع ذلك الإنذار، ما اضطر المعتدين لوقف عدوانهم، وانسحاب الجيش «الإسرائيلي»، عن جزيرة سيناء. وقد اعتبر السلوك الأمريكي في حينه، جزءاً من مخطط الإزاحة الذي بدأت تنتهجه الولايات المتحدة، منذ عهد الرئيس ترومان.