آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الكاتب... والرقيب..!

الدكتور محمد المسعود

في كل زمان ومكان... الكاتب يكتب - بما - يسمح له بنشره، وبما لا يٌعاقب عليه، وبما يرضى عنه الرقيبٌ في الشكل والمضمون، في أول الأمر وفي خاتمته، وإن حدود الممنوع متحركة، وإن الحلال والحرام في النص متحركان.. ويتعاقبان.. ويحل أحدهما مكان الآخر أحيانا.. فحتى - الذوق الشخصي - يحضر بقوة فيما يٌجاز نشره وما لا يجاز..!.

نصوص الكاتب تخضع للتأويل بذات خضوعها للتفسير، وإن كل كلمة هي قابلة لأكثر من قراءة، وهي متهمة بأن تحمل في الظلال، والإيحاء، والإشارة.. أكثر مما يحمله معناها الظاهر البين.. ما يٌكتب يمثل - رأي - الرقيب أكثر من رأي الكاتب في مرات كثيرة، وإننا حين نقرأ لمؤرخ روايته للوقائع.. والأحداث.. في أسبابها الظاهرة، وتدفقها، والوقوف عند تفاصيلها ونتائجها.. إن هذا كله يعبر فقط عن - الرواية الرسمية - يعبر عن «ما هو مسموح له» قوله وروايته.

التاريخ ليس فقط يكتبه المنتصرون، ويكتبه أيضا من لا حرية له ولا رأي، يكتبه الصدى والأجير والمستأكل بقلمه.... التاريخ كذبة القوي المستبد

حين نقرأ لأي كاتب، يجب أن نعي أننا نقرأ بحدود ما «يمكن نشره وقوله» ولا نقرأ - الرأي - الأخير للكاتب، وحين نقرأ لمؤرخ، يجب أن نعرف - مساحة ما هو متاح له - روايته، وتدوينه..!

. فمجزرة - الأرمن - بكل فظائعها المروعة، لم يتطرف إليها - كاتب تركي - بتاتا - طيلة خمسين عاما..!!.

يجب أن نعي أن «الظرف» و«المكان» و«المسموح به» ليس من رقيب السلطان والحاكم فقط، بل من «سلطة الرقيب» أيا كان هذا الرقيب فقد يكون «العامة» المجتمع، الناس، هم جزء لا يتجزأ من منظومة الأستبداد، والقهر.

فهذا هو الإمام النسائي أحمد بن شعيب بن سنان بن بحر النسائي المولود في 215 هـ  يروي الذهبي، والمقريزي، وأبن خلكان عن سبب شهادته - رحمه الله تعالى - في يوم الأثنين 13 صفر سنة 303 هجرية «إن النسائي خرج من مصر إلى دمشق، والمنحرف بها عن علي كثير فصنف كتاب «تهذيب خصائص الإمام علي». رجاء أن يهديهم الله إليه. فسئل عن فضائل معاوية بن أبي سفيان..!! فقال: أي شيء أخرج؟! ما أعرف له فضيلة.. إلا حديث «اللهم لا تشبع له بطنه..» فضربوه في الجامع على خصيتيه.. وداسوه.. حتى أخرج من الجامع.. فحمل إلى الرملة.. فمات شهيدا..». تذكرة الحفاظ للذهبي ص 699 ووفيات الأعيان لأبن خلكان ج1 ص77 والمقفى الكبير للمقريزي ج1 ص 402 والبداية والنهاية لأبن كثير ج 11 ص 124.

هذا التعذيب المفضي للموت وهو يحدث في بيت من بيوت الله.. فقط لأنه قال في معاوية - رأي - يخالف السائد عندهم. وهو قاض، وأحد أكبر أئمة الحديث، وصاحب السنن الصغرى والسنن الكبرى.. المعروف «بسنن النسائي».

ما يكتب في كل زمان وفي كل مكان.. هو ما يسمح به الرقيب، السلطان، والعامة بكل عنفهما واستبدادهما!

فلا كاتب في العالم الثالث «اليوم» بوسعه أن يكتب «رأيه هو» بتجرد.. وبحرية مطلقة.. غاية ما يستطيعه ويقدر عليه.. أن يستبطن في مجمل ما يكتب ما يريد قوله.. مدفونا.. متواريا.. مختبئا.. خلف الذعر.. والخوف.. والعقوبة.. من بين الحطب اليابس الذي أشتعل في كتب أبن رشد.. وفي خزانة طعامه.. وأبواب بيته.. الذي هدم وهو فيه.. يترقب أنبعاج دمه المستباح...!!.