المزايدة على الوطنية
قبل أكثر من 40 عاماً طرق منزلنا الطيني الصغير في حلة القصمان «كان أجار المنزل 1200 ريال سنوياً» رجلاً مبتسماً وهاشاً، أتى ليزور أخي الأكبر فهد، عرفني عليه أخي بأنه عقل الباهلي. ومن خلال أخي تعرفت على آخرين في فترات قبلها وبعدها وتزامنا معها، اعتبر كل منهم، طبعاً بعد أمي وأبي وأخي، أستاذاً لي أنار حياتي وشكّل شخصيتي، وأنا مديناً لكل منهم ما حييت.
ومنذ أن تفتحت عيناي على الدنيا علمني أخي أول درس ديموقراطي في الحياة، هو أنه مهما كان خلافه مع أحد أصدقائه، الذين أصبحوا أيضاً أصدقائي، فإن هذا لا يجعلني أبتر أو أحدد أو أنحاز ضد هذا الصديق بسبب أخوتنا، ويشهد الجميع أنني تعلمت هذا الدرس جيداً، وكنت أحياناً أنتقد أخي لعلاقة ما مع صديق ويتقبلها مني بصدر رحب.
أبو انتصار «عقل الباهلي» من هؤلاء الذي أفخر بأنني تعلمت منه الكثير وتقاطعت دروبنا في ما بعد في هموم مشتركة اجتماعية كانت أم ثقافية. على أن هذا لا يعني التسليم بكل ما يقوله، فالاختلاف يحدث أحياناً حتى بين الأب وابنه والأستاذ وتلميذه، إلا أن أبا انتصار، والشهادة للحق، لم يكن يوماً إلا أحد الوطنيين الذين يهمهم الوطن وشأنه ورفعته، لذا كان من المؤلم أن يواجه بتلميحات مسيئة أو تشكيكات لا معنى لها لمجرد سوء فهم أو اختلاف بالرأي.
ما يحدث في البرامج الفضائية يختلف عما نكتبه في مقالاتنا، فالكتابة تتيح لنا التفكير بروية ونستطيع أن نعيد ونحذف ونصحح ونضيف بكل أريحية، بينما الموجود في الحوارات ينقلب إلى شخصنة واتهامات وانفعالات يتسلل من خلالها الانتهازيون والمزايدون والطبالون.. وهلم جراً.
«القطيف» جزء مهم وعريق من بلادنا والتقليل منه أو من سكانه هو طائفية بغيضة لا يقبلها الدين أو الوطن، لكن البعض ممن في قلوبهم هذا المرض الطائفي لا يتقبلون إلا التشكيك والمزايدة على كل من يتحدث عن قضايا حساسة هناك، سواءً أكان إيجابياً أم سلبياً. ومن المؤسف أن بعض من تربوا في تلك البقاع انضموا للموجة طمعاً بمكاسب رخيصة كلكم تعرفونها.
نعم، هناك من يحارب الوطن في القطيف، ولكن هناك من يحارب الوطن في القصيم وفي كل قبعة في المملكة، لكن كل هؤلاء ندرة ونشاز، فالأغلبية الساحقة يخفق قلوبها حباً للوطن ولأرضه وشعبه.