نشوة الفرح والسرور في إلحاق النص الأدبي بسمك الصُّبور
إنَّ لسمك الصبور مذاقاً لا منافس له بين الأصناف الكثيرة من الأسماك، ذلك لأن في طعمه شيئاً من السِّحر الذي يفوق لذة الطيبات من الأطعمة التي توقِّعُها على اللسان، فهو عند عشاقه على ما وصفت، ولا وصف يجسِّد المشاعر أو الانطباعات الناتجة عن خوض التجربة وانتشاء الذوق بالمتذوق على مائدة تحتضن صحن الصبور المزركش بالحشو والبهار اللذين يساهمان في تصعيد انبعاث زمن أسطوري يفوق في لذته انتشاء المنخَّل اليشكري وهو يشعر أنه ”ربُّ الخورنق والسَّديِرِ“..!
غير أنَّ الأشواك الناعمة الكثيرة التي تتخلَّل الصُّبور تتعب عشاقه وهم يأخذون وقتاً طويلاً في انتزاعها من لقيمات يستلونها من صحن مائدتهم المفضل على غيره من الصحون والأصناف، مما يجعلهم يصرون على تكرار التجربة وإدمانها غير مبالين بما يلاقون من تعب ونصب وصبر في سبيل اللقاء ومائدتهم الأسطورية الفاخرة بسحرها لا بشيء آخر، فآكل الصُّبور لا بد أن يكون صَبوراً، ولعل في تسميته دلالة تشي بما يلاقيه عاشقه الذي ينبغي عليه أن يتحلى بالصبر حين مباشرة الأكل على الأقل، وهو الحاصل بالفعل، لكن العاشق بمجرد أن ينتهي من الأكل، فإنه يبدأ بإطلاق كلمات الذم والتأفف من الصُّبور لتعبه في انتزاع الأشواك الكثيرة مما لا يلاقيه في سمك وديع مريح كسمك الزبيدي أو سمك الكنعد على سبيل المثال، ولهذا السبب لم تبق المعاناة من الصُّبور في الناحية المذكورة حبيسة غرفة الطعام، بل أخذ الذم مأخذه حين ارتفع في أدائه إلى سقف الأمثال الشعبية التي شاع فيها مَثَل عنه يقول ”مِثْل الصُّبور مأكول ومذموم“ فهو مَثَل - لو تجاوزنا السياق الإيجابي في ضربه - يشير بكلمة «مذموم» إلى التذمر الفائق من أشواكه الناعمة مع عدم إغفال الاعتراف والرغبة الشديدين في كونه «مأكولاً» معشوقاً على كل حال..!
فلئن كان الصُّبور مأكولاً ومذموماً - وهو من نِعم الله التي أفاض بها على الإنسان - وكان تعاطي الإنسان معه وهو عاشق له على هذه الشاكلة، فحري بنا كمبدعين وقارئي النصوص الأدبية ومتذوقيها، أن يكون تعاملنا معها على صعيد العشق أو الميل والاشتهاء كتعاملنا مع سمك الصُّبور الذي نأكله بإقبال ونذمه بعد قضاء وطرنا وإشباع شهوتنا بإدبار، فينبغي ألا يُستغرب من المبدع حين يكتب «قصيدة نثر» ثم يدبج مقالة لاذعة في ذمِّها والسخرية من لغتها في التطبيق البعيدة عنها كل البعد في التنظير، ثم يواصل كتابتها أو قراءتها ويعود إلى هجائها هجاءً ساخراً منها ومن كتَّابها الذين هربوا من بحبوحة البيت المموسق في قصيدة الشطرين فوجدوا ضالتهم مرتاحين في شرنقة قصيدة التفعلية التي تحمل جينات أمها في النغم والإيقاع، ثم آل بهم المطاف إلى الإقبال بشهوة وشره على «بقل» قصيدة النثر و«قثائها وفومها وعدسها» مفضلين ذلك كله على ما في قصيدتي الشطرين والتفعيلة من «مَنٍّ وسلوى» جادت عليهم بها سماء الإبداع..!
وكما يملُّ الإنسان في طعامه من الصُّبور ومن أشواكه فيلجأ إلى ذمه تارة، وإلى النفور منه تارة أخرى مائلاً إلى تناول أنواع مختلفة من الأسماك من قبيل البني والقَطَّان والهامور والزبيدي والكنعد والصافي، فإنه قد يمل ويسأم من أحدث الأنواع الأدبية وأجَدّ فنونها وأساليبها إذا هو استسلم إلى ركوب التيار وآمن بمقولة ”حشر مع الناس عيد“ غير أنه - يا للعجب - لا يجد راحته في التعبير عن سأمه كما يجدها في التخير بين الأسماك وفي الإفصاح عن موقفه النفسي تجاه بعضها، وفي تقلبه إزاءها وفق تقلب مزاجه أو تقلب رغباته..!
فهو - مادام التيار الجديد مع «بقلها وقثائها وفومها وعدسها» - يخشى ويخاف أن يفصح عن نفوره النفسي من مشتهيات التيار، كما يخشى أن يذم مشتهياته كما يذم الصُّبور، ويرتعد من التصريح بمدح لاميتي العرب والعجم كما يمدح الزبيدي والكنعد والهامور؛ فالأمر ليس أكلاً بل هو تجديد وحداثة ونقلة حضارية وتخلص من زمني التقليد والرجعية، وهو «تحوّل» إبداعي يناوئ «الثابت» النمطي المتحوَّل عنه، وهو على صعيد «الرؤيا» خيار إنساني يجعل الإنسان محوراً في فضائه الكوني في مقابل المحورية «الميتافيزيقية» الماضوية، وهو وهو... إلى آخره من إنشائيات «رؤيا» الحداثة التي حولت الواقع الأدبي في مخياله الجميل إلى كابوس ثقيل مزعج ولم تجني من شجرتها الفارعة التي زرعتها وتعهدتها بالسقيا سوى ثمار الخيبة والسراب، وسوى المواصلة في تعكير صفو الذائقة العربية وإثارة غبار المشاكسات حول تلقائيَّتها اللمَّاحة، فهي تُصعِّر خدها وتتنمَّر حين ترى رؤانا الأدبية تمارس أحلامها وفق أساليبها المعهودة والمألوفة التي عشقها الناس وتغنوا بها جميعاً على اختلاف مستوياتهم الثقافية والفكرية.
إن حداثيي أدبنا - والمضاف على سبيل التجوُّز والمجاراة - عجزة خاملون منبهرون، ليس لهم فضل يُذكر سوى نقل معطيات الحداثة الناتجة عن حركة التنوير المتخلصة من الإكليروس ومحيطه الضاغط إبان الثورة الفرنسية.. بيد أنهم قد أفسدوا فضيلة النقل والتلاقح الحضاري بطريقة نقلهم الاستنساخية التعميمية الإسقاطية، فأخذوا بامتياز دور «محاكم التفتيش» ثم أطلقوا عجلة الانتقاص من تراثنا وأدبنا منظرين إلى أدب خال من «الأيديولوجية» وهم لم يملوا ولم يكلوا من تكرار وصم نصوصنا الأدبية ذات المعاني الروحية بالتقريرية والخطابية الغارقة في بحر «الأيديولوجية» ولم يشبعوا من الاستجابة لنفوسهم الانبهارية من خلال الاستشهاد على مقولاتهم بأسماء أجنبية نقدية وأدبية، وقد ذهبوا في ذلك بعيداً وهم يظنون كل الظن أن خطابهم الحداثي في مساري الفكر والنقد سيكسب علميته ومتانته بمجرد استحضار الأسماء المذكورة والدوران في فلكها المنزَّل منزلة المقدس في نظرهم البعيد..!
إنها إن تكن ”شقشقة هدرت“ بها المقالة تجاه تيار الحداثة وخلفياته لا تجاه التحديث والتجديد، فإنها هدرت على كل حال، غير أنها لا تريد أن تقف عند «مقارعة الرؤى» بقدر ما تريد أن تلامس واقعاً يشعر به الجميع.
إنه واقع اغتراب النص الأدبي عن مجتمعه وعن منشئيه أيضاً..
وهو واقع تيه النص النقدي في بيداء النص الأدبي المذكور..
وهو ترهيب للمبدع والناقد لكي يمشيا بانضباط مشية عسكرية وفق المسار المرسوم والمحدد من قبل التيار ومعطياته التي لا تكل ولا تمل من تنشيط الشرطي الداخلي الذي يفرض نغمة الصرير على قلمي المبدع والناقد...
إنه واقع بائس لابد من الانتفاضة عليه من خلال العودة إلى «قاعدة سمكة الصُّبور الذهبية»
ألسنا نحن الذين أنتجنا الأنواع الأدبية تلك..
ألسنا نحن الذين ابتكرنا أساليبها..
فلِمَ لا نجرؤ على التنقل بينها كجرأتنا على التنقل بين أنواع الأسماك..؟!
ثم لِمَ لا نعمد إلى «هوانا» فنتبعه اتباعا عادلاً، فننظم ونكتب ثم نذم ما نظمناه وكتبناه، كما نلتهم سمكة الصُّبور ثم نطلق الأقوال والأمثال السائرة في ذمها..؟!
نحن نجرؤ فنعمل هذا مع أسماك الصُّبور والله تعالى هو الذي خلقها وسواها..!
أفلا نقتبس قبسات من الجرأة تلك لتعيننا على إجراء المعاملة نفسها مع أشكال وأنواع وأساليب نحن الذين صنعناها وابتكرناها..؟!
أ فنكون جاهليين رجعيين فنعاملها معاملة أصنام صنعناها فعظمناها وعبدناها..؟!
لله أبونا..! فحتى الجاهليون إذا صنعوا أصنامهم التي يعبدونها من تمر، فإنهم يأكلونها إذا جاعوا..! فِلم نكتم حنيننا إلى الكتابة على بحر المديد أو المنسرح، ولِمَ نصوم صوم زكريا إذا أحسسنا بشوق إلى الترنم ب «شمعة عرس» الشرقي أوب «طلاسم» أبي ماضي أو ب «سفر أيوب» السياب التي صارت من الماضي عند «سائقي أظعان الحداثة» وعند «طاوي بيدها ذلك الطي»..؟!
إن علينا كمبدعين ونقاد أن نعود إلى الركام الهائل من نتاج «التصنّع» الذي خلفناه على صعيدي الإبداع والقراءة ‘ فنعيد النظر فيه، ثم ننطلق من عندياتنا وأنفسنا غير واقعين تحت وطأة الرعب والرهبة من التهم الجاهزة التي توزع بسخاء على كل من يستجيب إلى نوازعه الداخلية في انطلاقته الإبداعية أو في قراءته النقدية المنطلقة من كينونته ومرتكزاته أو حتى في اقتنائه وإنشاده ونقده الشفهي لما شاع وساد منطلقاً من رؤيته أو من مزاجيته، فالأمر في وصفه بالنكوص من قِبَل التيار على حد سواء.
بقيت الإشارة إلى أن لغة السجع والتفكّه في عنوان المقالة جاءت - وفق طريقة التبادر - لغرض استذكار ما يُطلق عليه ب «أدب عصر الانحطاط» أو «أدب الدول المتتابعة» الذي شاع فيه السجع وعموم المحسنات البديعية، والهدف من غرض الاستذكار هو الإشارة إلى «أدب المناظرة» الذي شاع في ذلك العصر بين الأشخاص كما شاع في الموازنة بين الأشياء والرؤى وبين فنون القول، فنجد هناك مناظرة بين شخصيتين فكريتين أو أدبيتين أو مناظرة بين السيف والقلم أو مناظرة بين الشعر والنثر، وما إلى ذلك من فن المناظرات الذي يشتغل فيه مبدع المناظرة على بيان محاسن أحد الضدين وتفضليه على الآخر ثم ينتقل إلى الجانب الآخر فيفضله على الأول الذي فضله عليه سابقاً. فالوجه المشرق في المناظرات بين فنون القول - على سبيل المثال وهي موضوع المقالة - أن الأديب آنذاك كان يعكس حراكه الحر في التنقل التفاضلي بين الفنين - موضوع المناظرة - وهو ما يشير إلى أفق التفكير الحر الذي يتمتع به الأديب، ويؤكد على أن الفن القولي ما هو إلا صناعة والإنسان هو الصانع، وللصانع الحرية في الرفع والخفض والتصرف بما صنع كيفما يحلو له وكيفما يشاء، والمناظرة مع كونها فناً قولياً، فإنها لاتجاهها المذكور موضوعياً تكشف عن اشتغال نقدي متحرر مساوق للاشتغال الإبداعي ومزامن له في المسار، مما يدعونا إلى اعتبار هذا المنحى فيما حفظه لنا بصورة بارزة «أدب الدول المتتابعة» منحى متقدماً على صعيدي الإبداع والنقد ينبغي إبرازه بقوة لتمثُّله في مسألة حرية التنقل والنقد والمقارنة بين فنون الآداب وأساليبها - خصوصاً إذا كان مبدع صور المدح والقدح أو المحاسن والمساوئ بين فنين أو نوعين أو جنسين أدبيين ومداورة الصور سلباً وإيجاباً بين ما أبدعه هو الأديب نفسه - مما يظهر حركية الإبداع في منسوبها العالي من التحرر والأمن من الوقوع في دائرتي الانبهار والجمود على قالب واحد... ذلك ما يعزز الدعوة إلى تمثُّل التعاطي المذكور مع الآداب وفنونها وخلفيات رؤاها الراهنة تمثُّلاً يخلصنا من التعلق الطفولي بما وقعت عليه العين، ومن اندفاع الروحية المراهقة في تشكيل الرؤى والأحكام المنبثقة منها؛ فتمثٌّل الحِراك الحر هو الأساس في صناعة الإبداع، والإبداع أكبر من أن يربط من حيث الحكم المعياري بالزمن...
كما أن الخطاب النقدي القديم يُحسب له توظيف مفردات الواقع العربي البيئية والحياتية في تكوين رؤاه وأحكامه، مما أضفى على طرحه شيئاً من «الحلاوة» وعلى لغته «طلاوة»، وهو لنهله من معينه الخاص في كثير من الأحيان، وفي ركوبه صهوة الظرَف منطلقاً في تنظيراته وتطبيقاته «ليعلو» على الكتابات النقدية المعاصرة المغرمة إلى حد الترنح والسّكْر في امتشاق لغة جافة مثقلة بتقصُّد الصرامة «الأكاديمية» التي أبعدتها عن طراوة لغة نقدنا القديم وعن حلاوتها وطلاوتها في الأعمال المتمحضة للنقد أو الأخرى المندرجة ضمن الأعمال الإبداعية المشار إليها في المقالة ب «المناظرات» في حقبة «الدول المتتابعة» - مع التحفظ على مسألة التحقيب السلطوي للأدب وعلى الأوصاف النمطية التي لحقت ذلك الأدب ولازمته - كما لا نعدم من وجود أعمال إبداعية لها محمولات نقدية أو حتى فلسفية في مختلف العصور في مخزون تراثنا الغني كما جاء في تراث الجاحظ البصري وكرسالة الغفران لأبي العلاء المعري أو رسالة التوابع والزوابع لابن شهيد الأندلسي، وكالمحمولات الفلسفية والتربوية التي حملتها اللغة الأدبية وسردها في العمل الإبداعي «حي بن يقظان» المنتج من قبل ابن طفيل والمعاد إنتاجه من قبل ابن سينا والسهروردي وابن النفيس - مع إيكال ما ورد في العمل المذكور من حيث التأصيل والقراءة والحكم إلى سياقه الخاص - وكما في كتب الكشاكيل والتراجم التي لا تخلو من الشذرات النقدية ذات الطرافة والمسحة التي تعكس الروح العربية التي ذهبت ضحية الأكاديميات المتنطعة والجاهدة في الأخذ المنبهر من الأغيار، والمستميتة في النهل الاقتراضي الفقير للتمثُّل الإبداعي من حيث القراءة والإنتاج هذه الأيام.
إن كلمات «المقالة الصُّبورية» تلك، لم تكن تطمح بأن تُنعت بالرصانة العلمية، وهي لم تضع أمام عين مخيلتها المسْطرة التي يمكن أن تُقاس بها قياساً أكاديميَّاً؛
ذلك لأنها قد أصيبت بالتخمة من متابعة اللغة المزبوة في الكتب المعنية وفي المجلات المحكمة وفي عموم الدوريات التي تُعنى بالأدب والنقد وقضاياهما.
إنها تحلم بأن تعود إلى خطاب النقد الأدبي العربي نكهته وظَرَفه المتفردان، وأن يستعير النقد روحية الأدب بدلاً من أن يتمثَّل الأدب كَدَرَ النقد وعُقَده التي أقعدته عن التماهي مع جذوره ومع كيانه الخاص.
ولئن تكن «المسطرة الأكاديمية» لا تسمح بذلك، فعليها ما لها من اعتبارات، وللوجلين متعتهم الرافلة بالتهيُّب، ولنا أن نعمد إلى استيلاد خطاب نقدي وسطي يبني جسراً متيناً بين النص وقراءته، ليعبر جادته العريضة جمهور المتلقين على اختلاف مستوياتهم الثقافية، فيؤدي النقد دوره، وتتسع دائرة التلقي قراءةً وتذوُّقاً.
أمَّا على صعيد الإبداع، فقد دعت «المقالة الصُّبورية» إلى التخفيف من غلواء الروحية المراهقة التي تتعصب لكل جديد، فتندفع إلى نبذ ما عداه وإلى هجره والسخرية منه، كما حصل ذلك عند بزوغ حركة «شعر التفعيلة» التي تعصبت له وسخفت من «شعر الشطرين» واتهمته بعدم القدرة على مواكبة العصر وعلى حمل رؤى الإنسان المعاصر في الزمن الجديد..!
إنها تهمة من التهم الكثيرة التي خرجت من أفواه المتعصبين لكل هبَّة جديدة إلى درجة الغلو، وهي قيميَّاً تحمل بامتياز صفة «اللغو» التي يجدر بنا ألا نمر بها وبمثيلاتها من التهم إلا مرور الكرام، فمقارعة «اللغو» تفصيليَّاً يجر إلى الانغماس فيه، وترك ذلك أحجى وأجدر.
إن «المقالة الصُّبورية» يُضحكها بكل ما للضحك من بواعث حين ترى شاعراً - إبان حركة شعر التفعيلة - قد أخذته الموجة كل مأخذ، فراح - وهو شاعر شطرين - يوزع كلمات قصائده على فضاء صفحات ديوانه الجديد توزيع قصيدة التفعيلة، ليوهم المتلقي بأن قصيدته حديثة، فهي قصيدة تفعيلة لا قصيدة شطرين...!
و«المقالة الصُّبورية» يُضحكها أيضاً - بقدر ما للضحك من بواعث -
أن ترى شاعراً آخر كان له تاريخ إبداعي وباع طويل في نظم القصيدة الموزونة بشطريها وتفعيلتها، يُعرض إعراضاً تاماً عن الكلمة المموسقة، خاتماً تاريخه الشعري بالكتابة على وفق «قصيدة النثر»، خوفاً من اتهامه بالنكوص والرجعية إن هو عاد إلى «القصيدة الموزونة» بشقيها، وهو لأنه كان معتاداً على قالب النغم في القصيدة التي نشأ عليها، قد عرَّى كلماته حين سحب منها عصب النغم، فبدت باهتة مملة لا تتمتع بالظواهر الجمالية التي تمتع بها نثرنا الإبداعي القديم الغني بالموسيقى الداخلية، تلك الظاهرة التي اتكأت عليها قصيدة النثر تنظيريَّاً وأخفقت في تحقيقها إخفاقاً عالياً...
إن شاعر القصيدة الموزونة ممن يكابد أزمة شديدة في قلقه على مستقبله الشعري، ما كان يتصور أنه سيتخلى عن وهجه النغمي ويقع في الإخفاق المذكور، لولا جنوحه إلى ركوب التيار، وخوفه من إعراض النقد الموجه عن تناول نصوصه الإبداعية...!
إن «المقالة الصُّبورية» تدعونا إلى أكل أسماك الصًّبور والبني والبرزم والناجل والزبيدي والهامور، وأن ننوع في الأكل كيفما يحلو لنا، فلعل الفوائد الغنية في السمك تعمل على تقوية الإفرازات العصبية في أدمغتنا وتساهم في تصحيح أدائها، فنشفى من علل القلق والاكتئاب والعلل الذهانية كلها، فلا نرتعب من صرير نقد ذهاني يترصدنا، ونعيش حياتنا بصورة خالية من العقد والمخاوف، فنحن ”أمراء البيان نصرِّفه كيفما نشاء“ كما يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي، فلا أحد يمنع قصيدتنا من أن تتشنفر فتوغل في البادية أو تتبختر مع ابن زيدون في سحر الطبيعة الأندلسية أو تغتسل من وعثاء التنقل والسفر الأدبي ببويب السياب وبرشحات من مطر أنشودته أو تستلهم من نصوص نهج البلاغة وما عذب من أدب الدعاء المأثور، ومن بعض مواقف النفري ومخاطباته وغير ذلك من تراثيات النثر الفني الراقي موسيقاه الداخلية الغنية العذبة حين تجرِّب النزول في مضمار «قصيدة النثر» معتصمة بركنها التراثي الوثيق في استنارتها الموضوعية والجمالية، ثم تتكئ على حريتها الصرفة في تنويع الكتابة الإبداعية وفي النقد والتهكم، كما يتعاطى عشاق أكل السمك مع مختلف الأسماك ومع معشوقهم ومأكولهم «سمك الصُّبور» المذموم.