بين النقد والهِجاء
الرأي لا تجوز مواجهته إلا بالرأي، والمناقشة الموضوعية الهادئة، والتي تحترم الآخر مهما تكن درجة الاختلاف معه. إلا أن البعض دائماً ما يسقط في فخ الشخصنة، ويتمادى في هجاء الآخر، مدعياً أنه يمارس النقد، أو تقديم النصيحة، فيما الحقيقة هي غير ذلك تماماً.
إذ أن هناك فرق بين النقد المخلص من جهة، والهِجاء بقصد التجريح وإلحاق الأذى بالآخرين من جهة أخرى. فالهِجاء يصدر عن شعور بالتعالي والنرجسية، والتفتيش عن مثالب الآخرين، وطمس فضائلهم. فيما النقد يعتمد على التحليل المنهجي، والتشخيص الموضوعي، مع تبيين المساوئ والإيجابيات من غير انحياز، ومن دون تجني، وبمعزل عمن يكون هذا الطرف الآخر.
هؤلاء الهجاءين ينظرون إلى أنفسهم بأنهم فوق النقد، ومعصومين من الخطأ. فيما الآخرين في نظرهم دائماً مخطئون، لا يعرفون ولا يفهمون. أما هم فيرون في أنفسهم مُلّاك الحقيقة، فرأيهم الصواب المطلق، والبياض الناصع الذي لا تشوبه ناقصة، حيث لا يجوز نقدهم، أو حتى مناقشتهم.
هؤلاء الذين أدمنوا الهِجاء، حيث تحوَّل إلى نمط تفكير وأسلوب حياة، لا يرون غير ما يودون رؤيته، ويجيدون النظر إلى الجوانب السلبية في أي قول أو عمل. فأعينهم حادة ودقيقة وثاقبة في اكتشاف قبح الآخرين، ونواقصهم، وسلبياتهم، وهفواتهم، وزلاتهم، وما يرتكبونه من أخطاء، ويهتمون كثيراً بتصيِّد الجوانب السلبية، دون العمل على تصويب الأخطاء والسلبيات، أو تبيان الحقيقة. فأنظارهم دائماً تتجه صوب نواقص الآخرين، وذم أعمالهم والتشهير بها. أما فضائل هؤلاء ومناقبهم، وما يحملونه من خصال حميدة، فأعينهم تغض النظر عنها، ولا تلتفت إليها.
النقد الموضوعي له شروطه وضوابطه، بحيث يتجه صوب الموضوع، أو المشكلة، أو الفعل الذي يتصدى لنقده، والعمل على تفكيكه، وتحديد ما له وما عليه، من دون السقوط في فخ الشخصنة. فيما الهجَّاء غالباً ما تكون نظرته للموضوع صادرة عن مواقف وأفكار مسبقة، فهو إذ يُهمل جوهر الموضوع، أو المشكلة، تراه يتجه صوب الفاعل لإلحاق الأذى به.
والحقيقة التي يجب أن تقال إن الكثير منا، بشكل مقصور، أو غير مقصود، مغرم بنقد الآخرين، وكشف نواقصهم على الملأ. فيما الأولى بنا هو نقد ذواتنا، وكشف سيئاتها ونواقصها، والعمل على إصلاحها، بدلاً من تحويل أنفسنا إلى وعاظ ومصلحين وناصحين، وتجاهل ما نحن عليه من عيوب وأخطاء ونواقص.
إن التلذذ بهجاء الآخرين غالباً لا ينتهي على خير. فمن تهجوه وتنتقده لن يسكت أو يلوذ بالصمت، بل سيدافع عن نفسه، وسيمارس نفس الدور، ويعمل على رد الصاع صاعين، لينتهي الأمر إلى هِجاء متبادل، يخرج عن حدود الخلاف الثقافي، أو الفكري، أو الاجتماعي، أو الديني، أو السياسي، ليتحول إلى خصومات عقيمه، وأفعال وردود أفعال طائشة، هي أبعد ما تكون عن الحوار الموضوعي والجدل المحمود، بل تؤدي إلى توتير العلاقات بين الناس، وخلق المشاكل فيما بينهم، حيث تترك جروحاً غائرة في الروح والوجدان.