المجتمع الحديث من الهويات الصغرى إلى الهويات الجامعة
الهوية الجامعة هي السبيل إلى الخروج من المأزق الراهن، والتماهي مع التحولات الكونية، وبناء الدولة المعاصرة، والمساهمة بجسارة في الحراك الإنساني المتجه إلى الأمام
سيبقى موضوع الهوية مستمرا معنا، طالما استمرت أزمتها في واقعنا العربي. فالأحداث التي شهدتها بلدان عربية عدة، في السنوات الست المنصرمة، والتي أدت إلى طفح النزعات الطائفية، كما في العراق وسورية، والقبيلة كما في ليبيا، تجعل من مناقشة هذا الموضوع، أمرا حيويا ومهما.
ويمكن في هذا السياق اعتبار الأزمة الراهنة، في بعض أوجهها، ارتباكا لمفهوم الهوية بالمجتمع العربي، مما أدى إلى غلبة الهويات الصغرى على الهوية الجامعة للأمة. إن هذا الارتباك مرده ثبات شبكة العلاقات القديمة، ورسوخ عناصرها. إن ذلك يعكس حالة التشرنق، وعدم القدرة على تجاوز الماضي وخلق الظروف المواتية، لبروز علاقات اجتماعية جديدة، تؤكد الرغبة المشتركة، في تجاوز الماضي. ومثل ذلك، كما أثبتت التجارب التاريخية، رهن بتحولات اقتصادية وثقافية وسياسية، في البنيان الاجتماعي، وذلك ما يزال بعيد المنال في واقعنا العربي.
إن هناك علاقة جدل واضحة بين التحول في الواقع الاقتصادي والثقافي والسياسي، وبين تضعضع شبكة العلاقات القديمة، وبناء أخرى، لصالح المشروع الوطني، والهوية الجامعة للأمة. إن الوعي بأهمية تجاوز شبكة العلاقات القديمة هو أحد السبل، ضمن عناصر أخرى، لتشكيل بنيات جديدة على أسس مدنية، يكون من نتائجها انبثاق ثقافات وأعراف وتقاليد جديدة، تختزن في رحمها مخاض الولادة لهوية، تقوم على أساس المصالح المشتركة، وتصبح تعبيرا عن خصوصية وملامح المرحلة الوليدة.
كان التطور التاريخي قد أفرز أنماطا حديثة، تستند على العلاقات التآلف بين أبناء المجتمع الواحد، في بنيتيه السفلى والعليا، أحد أهم عناوينها الوحدة الوطنية. تتأسس من خلالها الهوية الجامعة، التي يمثل نشوء الدولة المدنية، بعناصرها المعروفة، أحد تجلياتها وتعابير الانتماء لها. وتلك هي قمة الارتقاء بمفهوم الوطن.
لقد كانت الهويات الجزئية ضرورة للبقاء واستمرار النوع الإنساني، عندما بدأت البشرية تلمس خطواتها الأولى. وكانت هذه الهويات عناصر لازمة منذ بدأ الإنسان في التجمع والاستيطان، في خضم الصراعات المحتدمة من أجل الحصول على الكلأ والماء، معبرة عن خصوصية ثقافات وعادات وتقاليد كل مجموعة وعن تمايزاتها، لتفصل بينها، بشكل حاسم، وبين المجموعات الأخرى. وقد بقي لهذه الهويات شأن لا يستهان به قبل نشوء الدولة الحديثة، حيث كانت الهوية الجزئية الحصن المنيع الذي تتمترس خلفه المجموعات البدائية، دفاعا عن كينونتها، أمام هجمات الأغراب.
أما وأن الحركة التاريخية، والتطور الإنساني، قد أفرغا تلك الهويات من مبررات وجودها، وجعلا من تجاوزها أمرا ملحا، وضرورة قصوى، إذا ما أريد للأمة أن تحقق نهضتها، فإن محاولات بعثها، أو التشبث بتركتها، يغدو فعلا معوقا لمشاريع التنمية والنهضة. وتصبح الهوية الجزئية، في هذه الحالة، عامل تفتيت وفرقة. وهي في ذلك، على النقيض من الهوية الوطنية الجامعة التي تتحشد تحت فيئها الجموع، من أجل تحقيق منظومة من الأهداف والتطلعات المشتركة.
بمعنى آخر، الهوية الجامعة، ناتج وحدة مجتمعية، تتسق مع التحولات الإنسانية المتجهة نحو كتل كبرى من الشعوب، والتي بمقدورها نقل المجتمع العربي، من واقعه المتخلف إلى مجتمع حديث متقدم. وأيضا لكونها تتسق مع اقتصادات الأبعاد الكبيرة.
نحن إذاً إزاء معادلتين: الأولى جامعة، تزج بطاقات الشعب بأسره في معركة البناء، وتجسدها الهوية الجامعة، بينما تجعل الهويات الجزئية، من أبناء الوطن كتلا هلامية متناحرة، تسعى كل كتلة للاهتمام بشأنها الخاص، وأوضاعها الخاصة. تنعزل الهويات الجزئية في «غيتوهات»، لتمارس طقوسها وتقاليدها خارج التاريخ. والنتيجة المنطقية لسيادة منطق الهويات الجزئية هو التناحر والصراع، بين أبناء الوطن الواحد، وقيام كانتونات معزولة عن بعضها البعض.
ومن أجل ضمان استمرار تلك الكانتونات، وتشرنقها وبقائها في حالة عداء دائم مع محيطها المجتمعي، وفي ظل العزلة والغربة، لا مناص من التمسك بالاستتباع للقوى الخارجية، لكي تحميها على حساب مصلحة الأمم والأوطان، وتغييب التنمية، والوعي والإرادة الحرة. وبالتأكيد سيكون الحديث عدميا، وزائفا في ظل كانتونات المحاصصات والقسمة، عن الدولة الحديثة، والمؤسسات، كما هو عدمي وزائف الحديث عن السيادة والاستقلال والحدود العصية على الاختراق.
في الهوية الجامعة: الهوية الوطنية، يصبح الحديث عن المجتمع العصري تطابقا بين المعنى والواقع وبين المضمون وتماهياته. أما الهويات الجزئية فإنها عوم في مواجهة التيار. إنها تعبير عن أنماط المجتمعات، ما قبل التاريخية. وهي أيضا تأخذ أشكالا إثنية وطائفية، تستمد مشروعيتها من العودة السحيقة إلى التاريخ، ليس في عناصره المتوثبة والحية، بل في اتجاهات ناكسة، ومعادية للمستقبل. وهي بالإضافة إلى ذلك، تُخضع التاريخ لتفسيراتها الخاصة، المتكلسة والمتبلدة. إنها تعتقد بمعرفتها لكل شيء، وخبرتها في كل شيء، وأنها هي الفرقة الناجية، في حين أنها في حقيقتها تغفل عن أبسط أبجديات القراءة. أما علاقتها بالتفكيك والتحليل، فإنها تعيش تماما خارج هذه الدائرة.
في الهوية الجامعة يحدث تفاعل مبدع، بين الزمان والمكان، بين التاريخ والجغرافيا، فتصبح الهوية نتاج تمازج خلاق بين العناصر الأصيلة والحية في التاريخ، بما في ذلك الإسهامات الفكرية والثقافية الإنسانية العالمية، لإثراء وتخصيب مجالات العطاء والفعل. أما الهوية الجزئية فإنها انتقائية، في علاقتها بالتاريخ، كونها تختار منه ما يعزز عزلتها وانغلاقها، ويرسخ حضور كيانيتها. أما فيما يتعلق بما هو إنساني وعالمي، فوار ومتحرك، فإنها منغلقة بامتياز على عطاءاته وإبداعاته.
الهوية الجامعة، هي بطبيعتها تجريبية نقدية، لأنها تؤمن بالعلم الحق والعمل الحق، وكل شيء خاضع للتحليل والبرهان. ولذلك تتواصل عملية الكشف والنضال المعرفي، لخلق مستقبل أفضل للجميع. وهي السبيل إلى الخروج من المأزق الراهن، والتماهي مع التحولات الكونية، وبناء الدولة المعاصرة. والمساهمة بجسارة في الحراك الإنساني المتجه إلى الأمام.