خارج جاذبية «العقل الجمعي»
يشترط بعض المعنيين باتجاهات الرأي العام مستوى عاليا من الوعي للحد من التلاعب بالعقول، ولتنمية الحس النقدي واستقلالية الرأي، وتلك من مسؤوليات المؤسسات التعليمية والتربوية، إلى جانب مؤسسات أخرى. لكن الوعي لا يتحقق في ظل مؤسسات تعليمية تساهم في تخريج «روبوتات» بشرية مبرمجة، أو في صناعة تروس آلة اجتماعية كبيرة، أو في تكريس أمية ثقافية مدججة بالألقاب والشهادات العليا. في غياب ذلك الوعي، يسود ما يسمى «العقل الجمعي»، لذلك يقترح الأديب الساخر مارك توين أن يراجع المرء نفسه إذا وجدها تصطف مع الأغلبية. أي تلك الكثرة التي قال عنها دعبل الخزاعي:
«ما أكثرَ الناس، لا بل ما أقلَّهم/ الله يعلم أني لم أقلْ فَنَدا/ إني لأفتح عيني حين أفتحها/ على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا»!
فالكثرة هنا تعني الوفرة العددية لشاعر يبحث عن الماهية. ويأتي هذا الربط بين بيت دعبل ومقولة مارك توين للتأكيد على أنه لا أهمية للكثرة في غياب الوعي. نعم، «ما أكثر الناس» الذين يجسدون، في غياب الوعي، عقلية وسلوك القطيع، وهو سلوك انقيادي مسيَّر، وشكل من أشكال الذوبان في الجماعة، حيث يتنازل المرء عن شخصيته وإرادته وعقله وخياراته الحرة، ويظل طافيا مع التيار. تأمل، على سبيل المثال، نتائج الاستفتاءات التي تجريها بعض القنوات الفضائية وستجد أن الاصطفاف مع أو ضد أي من الآراء المطروحة للحوار يتم وفقا للمبدأ القائل: «سمعتُ الناسَ يهتفون فهتفْتُ، ورأيتُ الناسَ يصفِّقون فصفَّقت»! و«ما أكثر الناس» الذين لا يسألون على ما قيل برهانا. فالاصطفاف، والحال هذه، ليس انحيازا للحقائق والأفكار بقدر ما هو اصطفاف مع الذات، حيث يعتبر التخلي عن فكرة ما هزيمة شخصية، أو هو اصطفاف مع الكثرة لاعتبارات عرقية أو قبلية أو طائفية أو فئوية.
إن تكريس ذلك الوعي وفقا للمفكر البريطاني «الروسي الأصل» إيزايا برلين هو ما حاول المثقفون التقدميون في القرن التاسع عشر الدعوة إليه تحت عنوان «إعادة التنظيم العقلي للمجتمع» الذي كان في تصورهم سيضع حدا للفوضى والقمع والوحشية والحماقات والانصياع الأعمى للتوجهات والأفكار النشاز التي يحدثها ويعززها الجهل الفكري. وتكمن صعوبة تحقيق ذلك الحلم في ما يعترضه من عقبات تربوية واجتماعية وشخصية تجعله يبدو طوباويا. مع ذلك فإن العالم يتغير ويتطور بالرغم من انتكاسة هنا أو عثرة هناك.