في الجغرافيا وأزمة الدولة العربية
في الحديث عن أزمة الدولة العربية، تواجهنا مشكلات عدة، أهمها استحالة الخروج بقانون عام يمكن تطبيقه على الواقع العربي بأسره، رغم التسليم بانتماء العرب إلى أمة واحدة تجمعها اللغة والتاريخ والجغرافيا. لكن هذه التقاطعات لا تنفي وجود عناصر إعاقة لنشوء الدولة العصرية، بنسب متفاوتة بين الأقطار العربية. وفي سياق هذا الحديث نتناول باختصار، بعض هذه العناصر، في علاقتها بالجغرافيا، تاركين الحديث عن علاقة هذه العناصر بالجوانب الأخرى، لأحاديث قادمة.
في الكتابات التاريخية تناول عدد من المؤرخين والمفكرين جوانب الاختلاف بين وادي النيل وما بين النهرين، بشيء من التفصيل. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى المؤرخين ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة، وإلى أرنولد توينبي، في عدد من مؤلفاته، وإلى جمال حمدان في كتابه «عبقرية الزمان والمكان». وفي هذه الدراسات نلاحظ تأثير البيئة والجغرافيا في صناعة السياسية، وفي التسريع، أو إعاقة التشكل الوطني وبناء الدولة العصرية.
في المقاربة بين وادي النيل وما بين النهرين، تشير القراءات التاريخية إلى أن علاقة الإنسان المصري، منذ القدم بوادي النيل هي علاقة محاكاة وتقليد، كون مياهه تنساب في معظم أيام السنة رقراقة وعذبة، ومن غير فواجع، أو مفاجآت. وهي على نقيض مياه دجلة أو الفرات التي تتميز في أيامها الأولى بما يشبه الأعاصير، مثيرة الفيضانات والغضب، وغرق القرى المشاطئة للنهرين. أو الجفاف في موسم الصيف. وأن علاقاتها بالإنسان في العراق وبلاد الشام هي علاقة تحد، وما يشبه العداء. فهي إما تغرق الأرض والزرع، أو تنتهي بالعطش.
هناك جانب آخر، في المعادلة بين البيئتين، بيئة وادي النيل وبيئة ما بين النهرين. الأولى فرضت تنظيم تقسيم المياه، وأدت إلى قيام دولة مركزية في مصر على مر الأيام والسنين، ومنذ أقدم التاريخ، والثانية فرضت اللجوء للزراعة الفيضية التي تعتمد على سقوط الأمطار. وفي ظلها لا تحتاج شعوب ما بين النهرين، إلى دولة مركزية، لكن بنيتها النفسية، هي دائماً غير مستقرة، لأن حاجتها مرتبطة بالقدر. فإن نزل المطر أتيح لها سد احتياجاتها الأساسية، وإن كان جفافاً فإن عليها أن تنتظر لأعوام قادمة.
هذا الواقع هو الذي يفسر لنا أسباب تعدد المراكز، وأيضاً تعدد الامبراطوريات التي تعاقبت على ما بين النهرين، من أشورية وبابلية وسومرية وأكدية وفينيقية، اتخذت من الجنوب أحياناً مركزاً لها، وأحياناً من الوسط، وأحياناً في الشمال، ومرة في الشرق، وأخرى في الغرب. في حين أن الأمر مختلف تماماً عن ذلك في وادي النيل، الذي اتخذ طابعاً نسبياً في الاستقرار، وفي سيادة وحدة الدولة بتشكلها الطبيعي.
ولا شك في أن ذلك كانت له إسقاطاته على طبيعة علاقة المواطن بالدولة، وعلى البنية النفسية للبشر، القاطنين في البيئتين. حروب وفواجع مستمرة في المشرق العربي، وشيء من الثبات النسبي في المدخل الإفريقي الشمالي للوطن العربي، ساعد عليه اعتدال في المناخ، يقابل ذلك برد قارس وحرارة شديدة فيما بين النهرين.
وفي العصر الحديث، رأينا مقص المحتل يمارس سطوته في تمزيق المشرق العربي. كما هو الحال مع فرض اتفاقية سايكس - بيكو، ووعد بلفور على بلاد الشام، في حين تستمر وحدة مصر السودان، إلى بداية الخمسينات من القرن المنصرم. وبالمثل تحتفظ الجزائر بوحدتها، بينما يجري تقسيم بلاد المغرب. أما ليبيا، فقد تم توحيد أقاليمها الثلاثة برقة وطرابلس وفزان، كما بقيت الجزيرة العربية في أغلبيتها موحدة، باستثناء ما أطلق عليه البريطانيون بالساحل المتصالح واليمن.
ما نريد التأكيد عليه، أن ما حكم التكوين السياسي لحدود الدولة العربية المعاصرة لم يكن التاريخ، ولكنه إرادة صناع القرار الكبار. وأن تم في بعض الأحيان بصيغة التوحيد القسري، وفي أحيان أخرى، بصيغة التفتيت، بالضد من إرادة ورغبات السكان الأصليين. وقد تم ذلك في الحالتين، وفقاً لمصالح واستراتيجيات الدول الكبرى.
ولكن هذا الواقع بات أمراً معترفاً به، ولم يعد هناك من سبيل إلى تخطيه، إلى بتغيير معطياته، وخلق ظروف أخرى مغايرة تمكن من إعادة تشكيل الخريطة السياسية العربية، في ضوء حقائق التاريخ والجغرافيا.
وحين امتشق الشعب العربي سلاحه، في معارك الاستقلال من الاستعمار التقليدي، كان النضال القومي، رغم شعاراته المعلنة والصاخبة، قد تم وفقاً للخرائط التي رسمها المستعمر. ولم يأخذ مكانه في حقبة واحدة، ووفق استراتيجية كفاحية موحدة. وحين تم استقلال معظم الأقطار العربية، فإن ذلك قد حدث وفق سياقات الخرائط التي رسمها صناع القرار الكبار، ولم يكن وفق السياقات الموضوعية، أو الأخذ في الاعتبار التطلعات والأماني المشروعة للشعب العربي، في قيام الأمة الواحدة.
ولأن التشكيل الجغرافي كان مشوهاً منذ البداية، وكانت ولادة الدولة العربية المستقلة، ولادة قيصرية، فإن النتائج لم يكن لها أن تكون طبيعية. فهناك اندماج في حالات لم تتحقق فيها الوحدة الوطنية، ولم تفتح القنوات لنشوء دولة عصرية. وهناك مقص تفتيت لمناطق لا تؤهلها الظروف التاريخية، ولا قدراتها الاقتصادية والبشرية لتشكيل دولة عصرية.
وحين حدث ما يسمى «الربيع العربي»، استيقظت النزعات الانفصالية الكامنة، طائفية ومناطقية وقبيلة، لتعيد الاعتبار مجدداً للعناصر التي من شأنها التأهيل لقيام دولة مدنية عصرية، بعد أن تمت صناعة الحدود، بقوة الأمر الواقع، وفي تجاهل مرير لحقائق الجغرافيا والتاريخ.