معراج لذة القرب الإلهي، ح/7
الأدعية والعلوم المعنوية، تحجز الإنسان عن الحركة والنشاط، ق/2
هنالك إشكالية تُطرح كالتالي:
وهي أنّ الأدعية، والعلوم المعنوية تمنع الإنسان وتحجزه عن الحركة والنشاط.. فهل هذه الإشكالية صحيحة وفي محلّها؟!
وبعبارة أخرى: هل يصح القول: إن الدعاء وطلب القرب الإلهي يمنع الإنسان عن طلب الدنيا، وعن التكسب والمعاش، وطلب الرزق الحلال؟!
هل تمنع الأدعية الإنسان، وتحجزه عن الزراعة والعمل والطب والعلم ومختلف الوظائف؟!
هل الدعاء «يوكِّل عيش!»، كما يقال، ويجلب الخيرات للإنسان؟!
ما هو الدعاء المطلوب.. هل هو الدعاء المقترن بالعمل أو بدونه؟! فمما لا شك فيه أنّ في الحركة بركة! واسع يا عبدي، وأنا الرّزاق! واعقلها وتوكل، وأيضًا -: الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر - كما ورد في الأثر - وفي المقابل يقال: الدعاء والدعاء، الأدعية الشريفة، والأدعية الشريفة! فهل يصح - بعد كل هذا - أن يقال: إنَّ الأدعية الشريفة تمنع وتحجز الإنسان عن الحركة والنشاط، والإنتاج والثروة والاستثمار؟!
وقد يطرح، في المقام، هذ السؤال: ما هو الغرض - أساسًا، من تحصيل الثروة في المفهوم الإسلامي؟!
وما هو المقصود بالتعلق المرفوض بالدنيا؟ وماذا عن درجات ومراتب الإخلاص؟ وهل يعجز الإنسان عن الترقي والسير للوصول إلى بعض درجات الإخلاص، وبالتالي - إذا عجز عن ذلك - فعليه أن يطوي بساط السير والمسير، والبحث والتفكير..
هذه المحاور وغيرها - إن شاء الله سيأتي بحثها ضمن سلسلة «معراج لذة القرب الإلهي»، وسوف يأتي بحث شروط الدعاء كذلك.
وقد يقال - بداية -: ما هو الدعاء؟!
وهل ينبثق عن الدعاء الفكر والوعي والثقافة؟!
وبعبارة ثانية: هل يمكن أن يكون للأدعية الشريفة علاقة بالفكر والوعي والثقافة والحياة أو هي، فقط، لقلقة لسان لا تغني ولا تسمن جوعان!
«راجع ح/ 4، وكيف وجدنا أنّ إمامنا السجاد - - قد وظف الدعاء في العمل الرسالي، وكيف ضمّن تلك الأدعية المعاني المختلفة في كل قضايا الحياة والكون والإنسان.»
فهل يصح، بعد ذلك، أن نعتبر الأدعية الشريفة، وما تضمنته من المعارف والعلوم المعنوية، أنها تشل حركة الإنسان وتجعله يعيش الرهبانية ويعيش الأجواء الصوفية، المانعة له، والحاجزة لإرادته عن الحركة والنشاط؟!
وهل يصح أن يقال: إن الدعاء أفيون الإنسان؟! وأفيون الشعوب على غرار ما قيل: من أنّ الدين أفيون الشعوب!
فهل يصح القول إنّ الأدعية الشريفة، إنما هي سلاح العاجزين والقاعدين؟!
وقبل الإجابة على هذه الإشكالية، ينبغي أن نعرف أن السيد الإمام يرى أن النبي الأكرم محمد، وأهل بيته الطاهرين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - هم القدوة للإنسان المؤمن السالك الطالب للقرب الإلهي، ولذلك يقدّمهم باعتبارهم القادة والقدوة الحقيقيين، في معرفة الله والقرب منه، ويضرب لنا مثلًا في تقديمهم وبيان سيرتهم وحياتهم في علاقتهم بالله - جل جلاله - والأعمال الصالحة المتنوعة؛ التي صدرت عنهم، ودورهم في هداية الأمة، والبشرية جمعاء، وهذا ما نتناوله في إحدى الحلقات، إن شاء الله تعالى.
أما الإجابة حول تلك الإشكالية، فيجيبنا السيد الإمام - قدِّس سره - مفنّدًا هذه الإشكالية وهذا الرأي «إشكالية حجز ومنع الأدعية والعلوم المعنوية للإنسان عن النشاط والحركة»، وكاشفًا الحقيقة، ورافعًا الحجاب عن هذا الاشتباه، وذلك في النقاط الآتية:
1 - يقول السيد الإمام: ”أولئك الذين تصوروا أن هذه العلوم المعنوية تحجز الناس عن الحركة والنشاط؛ هم على اشتباه.“ [1]
ويطرح في هذا المقام المثال التالي؛ فيقول: ”ذات الإنسان الذي كان يعلم الناس العلوم المعنوية هذه، والذي لم يكن له نظير بعد رسول الله - ﷺ - في معرفة الحقائق، هذا الإنسان وفي نفس اليوم الذي بايعوه بالخلافة حمل فأسه وذهب إلى عمله في الزراعة كما ينقل لنا التأريخ.“ [2]
2 - يتابع السيد الإمام - قدِّس سره - استدلاله من خلال متابعة وقراءة واستحضار سيرة القادة؛ الذين أقاموا العدل في الدنيا وفي مقدمتهم الأنبياء والأوصياء.. ويكشف السيد الأمام أن الوهم هو الذي يدفع البعض؛ لكي يحذروا الناس من الدعاء والأدعية الشريفة.. فيقول: ”أولئك الذين وبدافع من توهماتهم يحذرون الناس من الدعاء والذكر، وما ماثل، لكي يلتصقوا بالدنيا، هؤلاء لا يدرون ما الأمر، لا يعرفون أن نفس هذا الدعاء والأذكار هي التي تجعل الإنسان يتعامل مع الدنيا بالصورة المطلوبة، [حيث أنّ] الذين أقاموا العدل في الدنيا هم هؤلاء الأنبياء الذين كانوا أهل الذكر والفكر وكل شيء، وهم الذين ثاروا ضد الظلمة، وهذا نهج الأولياء أيضاً، [فإنّ] الإمام الحسين بن علي - سلام الله عليه - [هو الذي] قام بتلك الثورة، وهو نفسه الذي ترون دعاءه في يوم عرفة كيف هو.“ [3]
ولذلك يقرر السيد الإمام - قدِّس سره - الحقيقة السابقة، مؤكّدًا أنّ ”الأدعية هي مصدر أمثال هذه النهضات، وهذه الأدعية هي التي توجه الإنسان للمبدأ الغيبي لو أُحسن قراءتها، [وهذا شرط مهم، ينبغي التوقف عنده كثيرًا]، ونفس هذا التوجه يؤدي إلى تقليل تعلق وحب الإنسان لنفسه، وهذا لا يمنع الإنسان عن الحركة والنشاط، كلا، بل على العكس هو يولد حركة ونشاطًا أيضًا لدى الإنسان، ولكن ليس من أجل نفسه، بل إنه يدرك أنه يجب أن يتحرك وينشط من أجل خدمة عباد الله، فهي خدمة لله.“ [4]
3 - يعتقد السيد الإمام أنّ كتب الأدعية هذه، هي التي تصنع الإنسان وتبنيه، ويُرجع انتقاد المنتقدين لكتب الأدعية إلى جهلهم بدورها في صناعة الإنسان، ولذلك يرى أن المنتقدين لكتب الأدعية ”جهلة مساكين“ ولهذا كان يقول: ”أولئك المنتقدون لكتب الأدعية إنما يفعلون ذلك لكونهم جهلة مساكين؛ لا يعرفون كيف أن كتب الأدعية هذه تصنع الإنسان، فأي إنسان عظيم تصنعه الأدعية، الأدعية الواردة عن أئمتنا، كالمناجاة الشعبانية ودعاء كميل، ودعاء الإمام سيد الشهداء - سلام الله عليه - يوم عرفه، [وكذلك] دعاء السمات...“ [5]
وللتوضيح يضرب السيد الإمام المثال التالي قائلًا: "إن الذي يقرأ المناجاة الشعبانية [الإمام علي - -]، هو نفسه الذي يشهر السيف أيضًا، هذه المناجاة كان يقرؤها جميع الأئمة، ولم أر فيما يتعلق بسائر الأدعية الأخرى مثل هذا الوصف قراءة جميع الأئمة لها والذي يقرؤها [الإمام علي - - كان] يشهر السيف ويجاهد الكفار.
[فإنّ] هذه الأدعية تخرج الإنسان من هذه الظلمات، وعندما يخرج منها يصبح عاملًا في سبيل الله، مقاتلًا في سبيل الله، قائمًا لله. " [6]
4 - ولذلك وجدنا السيد الإمام مبيِّنًا ومنبّهًا، أنّ ”الأدعية لا تحجز الإنسان عن الحركة والعمل، كما يدعي أولئك، [ولذلك تجدهم، كما يقول السيد الإمام] قاصرين آمالهم على هذه الدنيا معتبرين كل ما وراءها من“ الذهنيات ”، لكنهم سيصلون إلى حيث يرون أن هذه الذهنيات هي“ العينيات ”وما كانوا يرونه عينيًّا هو الذهنيات.“ [7]
ومن هنا ندرك أهمية تأكيد السيد الإمام على أنّ ”هذه الأدعية والخطب، ونهج البلاغة، ومفاتيح الجنان، وسائر كتب الأدعية، هي التي تعين الإنسان؛ ليصبح إنساناً.“ [8]
نعم، فيومًا ما، كما قال السيد الإمام، سيصل الإنسان لمعرفة الحقيقة، وما أبلغ التعبير القرآني في المقام: ﴿وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ سورة العنكبوت، 64
فإن الله - جل جلاله - كما يرى أحد العارفين - قد ”هيّأ أسباب الحياة الدنيا الدّانية؛ التي حياة جميع أحيائها مشوبة بالممات، ووجودها مشوب بالإعدام، وجدّها لهو أو لعب، ولم يتركها بدون تهيئة أسباب الوجود والبقاء والتّعيّش، باعتراف المُقرّ والمُنكر؛ فكيف بالحياة الآخرة؛ التي حياة جميع أجزائها عين ذواتهم، ووجودها خالص من شوب النقص، ولذّاتها مبرّأة من شوب الألم، [وإلى أن ينتهي هذا العارف بالقول:] فإن الحياة الدنيا حياة بالعرض.“ 9 كما أُلمح إلى ذلك، وكما تقرّر، فتأمل ذلك وتدبّر.
ويتابع هذا المفسِّر العارف التفسير للمقطع الآخر من الآية ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾ [أي الآخرة] ”بجميع أجزائها“ ﴿لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ [بمعنى أنّ الآخرة هي التي يكون] ”محصورًا فيها الحياة أو المعنى أنّهم مهتمون بأمر الحياة الدّنيا؛ التي يَرَوْن أّنها كلعب الأطفال، غير باقية وغير مُترّتب عليها فائدة، وأنّ الدَّار الآخرة لهي الحيوان ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [أي] لامتنعوا من الاهتمام بأمر الحياة الدنيا، ولكانوا مهتمِّين بأمر الآخرة.“ [10]
ولا يخفى أنّه يوجد فرق بين اللهو واللعب، كما ذكر ذلك المفسر العارف، حيث أنّ ”الأول ما لا يكون له غاية؛ لا عقلانيّة ولا خياليّة، والثاني ما لا يكون له غاية عقلائية، ويكون له غاية خيالية، وإن كان الأول أيضًا لا يخلو عن غاية خفيّة.“ [11]
5 - يعتقد السيد الإمام أن الإنسان عندما يصبح إنسانًا؛ فإنّه يقوم بالأعمال الخيرية لوجه الله وقربة لله تعالى، ولذلك تراه يقول: ”عندما يصبح الإنسان إنسانًا يقوم بجميع تلك الأعمال، [فمثلًا]، يزرع ولكن لله، ويقاتل لله، [ولا يخفى أنّ] أولئك الذين قاموا بأعباء كل تلك الحروب ضد الكفار والظالمين؛ هم قراء الأدعية. [كما أنّ] أكثر أولئك الذين كانوا في ركاب الرسول الأعظم - ﷺ - [وكذلك فإنّ] أمير المؤمنين - - كان نفسه يقوم للصلاة في خضم اشتداد حمى القتال، يقاتل ويصلي، وفي اشتداد القتال قام خطيبًا متحدثًا عن التوحيد، [ونجد، ونقرأ أنّه] عندما سأله أحدهم عن التوحيد، وعندما اعترض آخر بأن الوقت غير مناسب لمثل هذا أجاب - -:“ دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي نريده من القوم". [12]
ويعلق السيد الإمام على هذا الموقف قائلًا: ”فالحرب هنا ليست للدنيا: علي لم يحارب معاوية لكي يتسلط على الشام، الرسول الأكرم والإمام لم يكن هدفهم العراق والشام، بل هدف أن يكون الإنسان فيها إنسانًا، أن ينقذوا أهلها من سلطة المستكبرين، هؤلاء هم أصحاب الأدعية، [فإنّ] الإمام علي الذي كان يقرأ“ دعاء كميل ”هو نفسه المقاتل الشجاع.“ [13]
نعم، فالإمام علي - - هو الذي قرأ القرآن والدعاء حقيقة، وحمل السيف وقاتل به الكفار، والقاسطين والناكثين، والمارقين الخوارج، كما أُبلغ، وكما أُمِر، فالإمام - علي - هو القرآن الناطق، والمتحدث الرسمي، والمطبق للإسلام حقيقة، لا خوارج ودواعش هذا العصر والزمان، الذين أهلكوا الحرث والنسل، خرابًا ودمارًا، وقتلًا وفوضى، وادعوا، زورًا وبهتانًا، السعي لإقامة الخلافة الإسلامية المزعومة، فكان أن شوّهت أعمالهم الإجرامية، صورة الإسلام المحمدي الأصيل، في نظر المجتمعات الغربية، وتبجَّحوا بأفعالهم التي نسبوها إلى الإسلام، زورًا، وما هي من الإسلام في شيء، بل الإسلام بريء منها براءة الذئب من دم يوسف - - حفظ الله البلاد والعباد عن كيدهم وخبثهم، وما يخططون إليه من الفساد. ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ سورة البقرة، 205.
6 - يعتقد السيد الإمام أنّ للدعاء تأثيرًا نورانيًا نافذًا ومستحكمًا في النفوس.. وجالبًا للخيرات والبركات..، ولهذا يرى أنّ ”الذين يبعدون الناس عن الأدعية كما فعل يومًا الخبيث“ كسروي ”حيث دعا إلى يوم لحرق كتب العرفان، وكتب الأدعية..، هؤلاء لا يعرفون ما الدعاء، وما هي طبيعة تأثيره في النفوس، لا يفقهون أن جميع هذه الخيرات والبركات هي من قراء نفس هذه الأدعية، [ولذلك يؤكِّد السيد الإمام قائلًا:] حتى الذين يقرؤونها بكيفية ضعيفة ويرددون ذكر“ الله ”ولو بصورة ببغاوية، فأنهم يتأثرون بها، وهم خير من تاركيها.“
[فمثلًا؛] المصلي ولو وفق أدني مراتب إقامة الصلاة هو خير من تاركها، وأكثر تهذيبًا، فهو لا يسرق. " [14] .
7 - يعتقد السيد الإمام أنّ للدعاء وأمثاله دخلًا وتأثيرًا في نظم العالم، وعلى هذا الأساس لا ينبغي أن يختفي الدعاء من أوساط المجتمع، كما أنّه لا ينبغي للشباب أن يعزفوا عن الدعاء بحجة الدعوة للعودة إلى القرآن الكريم، بل يجب التمسك بالقرآن والدعاء، وكذلك الحديث، ولا ينبغي الفصل بين هذه الأنوار.. ولها نجد السيد الإمام يقول: ”للدعاء وأمثاله دخل وتأثير في نظم هذا العالم، فلا ينبغي أن يختفي الدعاء من أوساط المجتمع، لا ينبغي لشبابنا أن يعزفوا عن الدعاء، وليس من الصحيح الدعوة للعزوف عن الدعاء، تحت شعار الدعوة لعودة القرآن، فهذا يعني تضييع الطريق إلى القرآن، هذه من الوساوس الشيطانية، فالشيطان يدعو إلى ترك الدعاء والحديث؛ لفسح المجال للقرآن. يقول يجب أخذ القرآن والإعراض عن الحديث!! وأمثال هؤلاء لا يستطيعون الأخذ بالقرآن، هؤلاء الذين يقولون لنترك الدعاء، ولنقرأ القرآن، لا يستطيعون الأخذ بالقرآن، فهذه من وساوس الشيطان التي تخدع الإنسان، وهي من الأقوال التي تخدع الشباب.“ [15] .
8 - كما يعتقد - قدِّس سره - ”أنّ هذه الأدعية تعين الإنسان على الوصول إلى الكمال المطلق.“ [16] كما وأنّه ”بهذه الأدعية، وبهذه الأمور الواردة عن الله ورسوله تتم تربية المجتمع.“ [17] [ولهذا يقول:] إن كنتم تقرؤون القرآن فهو يمدح الدعاء، ويدعو الناس له:
﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ﴾ سورة الفرقان، 78، إذن؛ فالذين يدعون إلى ترك الدعاء والأخذ بالقرآن يرفضون القرآن أيضًا: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ سورة غافر، 60. " [18]
وهذا يعني أنّه يمكن الاستدلال على صحة المطلب، قرآنيًا، نعم، فاستدلال السيد الإمام على صحة هذا المطلب، هو استدلال قرآني!
وسوف يأتي البحث القرآني لآيات الدعاء - إن شاء الله - في الحلقات القادمة.
نعم، ولذلك فإن أهم درس، في العرفان؛ هو أن يرفع الإنسان الحول والقوة عن نفسه، ولا يستمع لنداء الشيطان.
وفي هذا المقام يقول السيد الإمام - قدِّس سره -: ”ومن الوظائف المهمة للسالك إلى الله والمجاهد في سبيل الله أن يرفع اليد بالكلية، في خلال مجاهدته وسلوكه، عن الاعتماد على نفسه، ويكون بجبلَّته متوجهًا إلى مسبب الأسباب، وبفطرته متعلقًا بمبدأ المبادئ، ويتطلّب من ذاته المقدسة العصمة والحفظ، ويعتمد على تأييد ذاته الأقدس، ويتضرع، في خلواته، إلى حضرته، ويتطلّب إصلاح حاله، مع كمال الجد في الطلب منه تعالى، فإنه لا ملجأ دون ذاته المقدسة، والحمد لله.“ [19]
والخلاصة هي: أن السيد الإمام يرى أنّه ”يجب جعل الناس متوجهين لله تعالى.“ [20] وهم يؤسّسون بنيانهم وحياتهم في كافة المجالات والأصعدة، والأبنية الثقافية، والفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والحضارية، ولنتأمل في النور الإلهي: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ سورة التوبة، 109.
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾سورة البقرة، 127.
ذلك " إن الإسلام يريد من الأب أن يتعب ويربي، ويصرف أمواله على طفله وطفلته؛ حتى يكون في المجتمع مؤمن ومؤمنة، ومهندس ومهندسة، وطبيب وطبيبة، ومعلم ومعلمة، وغير ذلك يحملون بناء نفسيًا سليمًا، تسري روح الثقافة الإسلامية في أرواحهم؛ ليعيشوا الإسلام في كل مواقفهم ومواقعهم الوظيفية؛ ليكون الإنسان إبراهيميًا وإسماعليًا، عند القيام بوظيفته وعمله؛ ليعيش.
”الجو الروحي، الذي ينبغي للعاملين الإسلاميين أن يعيشوه، وهم يعملون في بناء المؤسسات، فلا تشغلهم التزامات العمل وقضاياه المادية التي تفرضها طبيعة العمل عن البقاء في الخط الروحي الواعي؛ الذي ينفتح فيه الإنسان على الله، الذي كان العمل من أجله؛ ليبقى للعمل جو العبادة والواجب والمسؤولية، فلا يتحول إلى غاية بعد أن كان وسيلة، كما نشاهد في كثير من المؤسسات.“ [21] كما يقول العلامة فضل الله - رضوان الله تعالى عليه - «من وحي القرآن، ص، 23» ويتابع الفكرة قائلًا:
”وربما كان السر في ذلك هو ابتعاد الأجواء عن الله واستغراقها في ظلمات الذات، خلافًا لما نستوحيه من أجواء إبراهيم وإسماعيل في روحيتهما الفياضة الدافقة في بناء البيت الحرام ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ سورة البقرة، 127.“ [22]
أسأل الله أن يجعلنا من أهل الدعاء وأهل الذكر وأهل القرآن بمشيئته تعالى. " [23]
إلهي!
أنت تعلّم أنّه ليس لنا من هذه المعاني إلّا حدّ الألفاظ والحبر والسواد!
إلهي!
فافتح بصيرة القلب؛ كي تنال شيئًا من محبتك وذكرك، ومحبة نبيّك وأهل بيته الطاهرين - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وارزقنا محبّتك ومحبة كلّ من يحبّك، واجمعنا وإياهم عندك ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ سورة القمر، 55، والحمد لله رب العالمين، اللهم صَلِّ على محمد وآل محمد، وعجّل فرجهم.