مسمار آخر في نعش حل الدولتين
زاوجت منظمة التحرير بين النضال السياسي والكفاح المسلح، وانتقل الكفاح المسلح من موقف استراتيجي لتحرير الأرض إلى موقف تكتيكي هدفه الضغط على الكيان الصهيوني للقبول بحل الدولتين
مرات عديدة، كررنا أن المشروع الصهيوني هو مشروع حرب، وأنه أبعد ما يكون عن نشدان السلام وتحقيق الأمن في عموم المنطقة. وقد جاء تطور الأحداث في العقود الخمسة الأخيرة ليؤكد صحة ما ذهبنا مبكرا إليه.
فالمقاومة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي رفعت شعار الكفاح المسلح لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، والتي اعتبرت هدف التحرير مبرر وجودها تخلت رويدا رويدا منذ معركة العبور عن هذا الهدف الرئيس. وخلال مسيرتها الطويلة انتقلت من هدف إلى آخر. فنقلت رؤيتها من التحرير الكامل لفلسطين التاريخية إلى القبول بدولة ديمقراطية موحدة يتعايش فيها اليهود والفلسطينيون، ويتمتعون فيها بذات الحقوق على قدم المساواة.
ولكن هذا الانتقال قوبل برفض «إسرائيلي»، حيث اعتبر قادة الصهاينة هذا الطرح قنبلة موقوتة تهدف إلى القضاء المبرم على الكيان الغاصب. وتعايشت منظمة التحرير مع هذا الرفض. وانتقلت إلى محطة أخرى في أهدافها واستراتيجياتها. حيث أقر المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثامنة عام 1978 مرحلة جديدة، وفقا للمعطيات السياسية الدولية والإقليمية القائمة آنذاك. فتبنى المجلس قرارا بقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها عام 1967، مبقيا استراتيجيته في الكفاح المسلح سبيلاً للضغط من أجل قيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف فوق التراب الوطني الفلسطيني، وبتحديد أدق فوق أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومرة أخرى رفض الكيان الصهيوني هذا الطرح، مطالبا الفلسطينيين بالاعتراف أولا بمشروعية اغتصابه لفلسطين والتخلي عن الكفاح المسلح. وجاء مؤتمر القمة العربية في فاس عام 1982 ليصادق على الاستراتيجية الفلسطينية الجديدة المعتمدة حل الدولتين. لكن الصهاينة رفضوا هذا التحول معتبرين قيام دولة فلسطينية مستقلة فوق الأراضي التي تم احتلالها في حرب يونيو 1967 تهديدا حقيقيا للأمن «الإسرائيلي».
وهنا كانت محطة الانتقال الثالثة التي توافقت مع اندلاع انتفاضة أطفال الحجارة في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي. حيث زاوجت منظمة التحرير بين النضال السياسي والكفاح المسلح وانتقل الكفاح المسلح من موقف استراتيجي لتحرير الأرض إلى موقف تكتيكي هدفه الضغط على الكيان الصهيوني للقبول بحل الدولتين.
وكان القبول بهذا الحل من قبل قيادة منظمة التحرير هو اعتراف بالأمر الواقع، بما يعنيه من استعداد منظمة التحرير للاعتراف بدولة «إسرائيل» مقابل الاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة. وتم في حينه رفع شعار الأرض مقابل السلام. وهو شعار رفعه وزير الحرب الإسرائيلي بعد حرب يونيو 1967. وقد عنى في حينه أن الحكومة الإسرائيلية مستعدة للانسحاب من الأراضي التي احتلتها في تلك الحرب، وهي شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، إذا قبل القادة العرب في دول الطوق التفاوض معها والاعتراف بوجودها.
انتقل الشعار منذ الدورة الثامنة للمجلس الوطني الفلسطيني من كونه شعارا إسرائيليا إلى شعار فلسطيني، يبين أن الفلسطينيين مستعدون للتخلي عن فلسطين التاريخية مقابل اعتراف العدو بوجود كيان فلسطيني مستقل بالضفة والقطاع. إلا أن التعنت الصهيوني تواصل رافضا المطالب الفلسطينية المشروعة، المتسقة مع مبادئ الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، وعلى رأسها قرارا مجلس الأمن الدولي 242، 338.
وحدثت اتصالات بين قيادة المنظمة وإدارة الرئيس جورج بوش الأب، انتهت إلى فتح قناة اتصال علنية بين السفارة الأميركية في تونس وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي اتخذت من تونس مقرا رئيسيا لها، بعد إجبارها على مغادرة بيروت بعد الغزو الصهيوني للمدينة في صيف عام 1981. وتوصل الفريقان الأميركي والفلسطيني إلى اتفاق تنبذ بموجبه قيادة منظمة التحرير العنف وتتخلى عن الكفاح المسلح، مقابل رعاية أميركية لعملية السلام بين الفلسطينيين والصهاينة.
وحينها ألقى الرئيس ياسر عرفات خطابه التاريخي من على منبر هيئة الأمم المتحدة في جنيف، وكرر فيه ثلاث مرات نبذ منظمة التحرير الفلسطينية للكفاح المسلح. وأثناء عودته من جنيف نزل في باريس وهناك أعلن صراحة أن ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية الذي يطالب بالتحرير الكامل لفلسطين التاريخية وبالكفاح المسلح لم يعد ساري المفعول وأنه بات من الماضي. وكان ذلك عامل تأهيل للفلسطينيين للمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد عام 1990، ومن ثم توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، التي أقرت قيام سلطة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن تبدأ المفاوضات النهائية المتعلقة بوضع المدينة المقدسة وحقوق اللاجئين الفلسطينيين بعد خمس سنوات من توقيع اتفاقية أوسلو.
مر قرابة عقدين من الزمن منذ توقيع اتفاقية أوسلو، ورغم المبادرات العربية والدولية والإقليمية، فإن التعنت الإسرائيلي تواصل من غير وجود أفق لتسوية سلمية للأزمة.
التطور الأخير المتمثل في تصريح رئيس الحكومة «الإسرائيلية» بنيامين نتنياهو رفض حل الدولتين هو أمر خطير، ومسمار آخر في نعش التسوية السلمية، كونه ينسف كل الجهود التي بذلت والتنازلات الفلسطينية التي قدمت من أجل التوصل إلى حل سلمي يؤمن الحقوق المشروعة للفلسطينيين. ولم يكن لنتنياهو أن يصرح بذلك لولا ضعف النظام العربي الرسمي، والانهيارات التي شهدها الوطن العربي في السنوات الست الأخيرة. وهو تصريح يعيد القضية إلى المربع الأول. ويدفع بالفلسطينيين إلى البحث عن خيارات أخرى تؤمن حقوقهم، بعد أن سدت في وجههم كل أبواب السلام.
إن التصدي لتصريحات رئيس حكومة الكيان العبري ليس مسؤولية فلسطينية فحسب، بل هي بالدرجة الأولى مسؤولية الدول العربية، التي صادقت وأيدت خيارات منظمة التحرير في السلام العادل. كما هي مسؤولية دولية. وعلى الهيئات الدولية التي تبنت قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338 أن تدافع عن قراراتها. وما لم يتم اتخاذ خطوات سريعة للجم الأطماع التوسعية الصهيونية فإن المنطقة بأسرها مهددة بالمزيد من الانهيارات والأعاصير.