هل كان جيلنا محظوظا؟
يسأل أحدهم، وكان موضوع الحديث اختلاف إيقاع الحياة من زمن إلى آخر: هل نحن جيل محظوظ؟ تعددت وجهات النظر حول هذه المسألة وكان المقصود بالضمير «نحن» أولئك الذين عايشوا الفترة الزمنية الممتدة من منتصف القرن العشرين إلى اليوم، وهم - أيضا - ذلك الخليط من الأكاديميين والتكنوقراط والمثقفين والعاملين في السلك التعليمي والقطاعين العام والخاص الذين كان لهم دور بارز في دفع عجلة التنمية الاقتصادية والإدارية والثقافية.
كان لا بد من تحديد معنى كلمة «محظوظ» لأنها، وعلى الرغم من استخدامها المتكرر في خطابنا اليومي، تحمل معنى ملتبسا، وغالبا ما نتجاوزه دون تمعّن. فنحن لا نسأل، مثلا، لماذا أبدع فلان في هذا الجانب أو ذاك، هل لأنه ذكي ومثابر أم لأنه محظوظ؟ وهل صنعه الحظ أم هو الذي صنع حظه؟ وهل يخبط الحظ الجيد أو السيء خبط عشواء، أم هو نتيجة حيثيات وظروف واقعية جرى استثمارها بشكل جيد أو سيء؟
حين يقول الشاعر: «فلو انَّي وضعتُ ياقوتةً حمراءَ في راحتي لصارت زجاجا»!
ويعلّق ذلك الإخفاق على مشجب الحظ، فإنه يتجاهل اختلال الواقع المعيش، وينسى أنه يحتاج للسيطرة على الواقع إلى عقلية لا تترك الأمور للارتجال والمصادفة. لكن هذا موضوع آخر، لذلك أكتفي بهذه الملاحظة لإيضاح الالتباس الذي يحيط بمفردة «محظوظ». وعليه يمكن صياغة السؤال السابق على النحو التالي: هل خدمتنا الظروف أكثر مما خدمت جيل اليوم؟
في الذاكرة الشعبية الصينية لا يعتبر جيلنا «محظوظا»، وذلك لأنه عاش في عصر «مهم» هي الفترة الممتدة من بداية الخمسينيات حتى اليوم. إنه عصر التحولات المثيرة على المستوى الاقتصادي والسياسي والعلمي، وعلى مستوى الاتصال والاعلام. لكن يستطيع أي شخص في هذا العالم أن يثبت أنه قد عاش في عصر مهم. ماذا يمكن أن نقول عن إنسان عاش جزءا من عمره في زمن الديكتاتوريات الأيديولوجية، وعمليات التطهير، والمجاعات، وفظائع حرب أهلية، وويلات حربين عالميتين، وشهد بعض التحولات الفكرية العظيمة التي غيرت وجه العالم؟ أليس ذلك عصرا مهما؟
لكن ما الهدف من المقارنة بين جيلين؟ هل هو مجرد وقوف على أطلال زمن جميل؟ كل جيل يستطيع أن يطلق هذه الصفة على زمنه. فما جدوى الوقوف على الأطلال؟ لا جدوى من ذلك إلا إذا كان الهدف من تأمل الماضي التعرف على الحاضر وتقييمه. ربما يكون ذلك مبررا معقولا لعقد تلك المقارنة.
على المستوى المادي، يبدو جيل اليوم أوفر حظا ممن سبقه، ويمكن استبدال عبارة «ولد وفي فمه ملعقة من ذهب» بعبارة «ولد وفي يده مفتاح سيارة». وكان ابن الجيل السابق يقطع الأميال مشياً للوصول إلى مدرسته أو عمله. إلا أنه يصعب تعميم ذلك على الجميع. غير أن الحديث عن الجيل السابق يعني الإشارة إلى جيل أقل دلالا وأكثر معاناة. و«المعاناة هي المرشد الأعظم في ذلك الصعود الذي يقود من الحيوان إلى الإنسان». كما يعبر الأديب اليوناني كازنتزاكي.
وعلى المستوى المادي أيضا - يبدو جيل اليوم أوفر حظا، حيث وفرت له التقنية الحديثة سبل الاتصال والاطلاع والقراءة والبحث والحصول على المعلومة بسهولة ويسر. لكنها ساهمت في فقدان أو ضمور قدرات ذهنية ومهارات فنية يدوية، كما كرست شكلا من الانطوائية، وقلصت فرص التواصل الاجتماعي والأسري.
كانت أحلام الجيل السابق كبيرة بحجم المساحة التي قطعها فريد الأطرش على «بساط الريح» وعلى رأسها الحلم بعالم متعدد متكامل يسوده الانفتاح والحب والتآخي. وهو ما عبر عنه أوبريت «الحلم العربي» لكن تلك الأحلام قد تقلصت في انتكاسة يصعب التنبؤ بنتائجها.
كان جيلا محبا للحياة، وقد ترجم ذلك الحب من خلال تعلقه بالفنون الجميلة «أدب ومسرح وسينما وموسيقى ورسم ونحت». وكانت «الجنحة» التي يمكن أن يرتكبها شاب من الجيل السابق هي حيازة كتاب يتوافر الآن في كل المكتبات المحلية بعد أن تغيرت المعايير. كما أن المعارك الوحيدة التي خاضها مثقفو تلك الأيام كانت معارك فكرية وأدبية وفنية سلاحها الكلمات.
وبعد: يمكننا أن نضيف سببا آخر أكثر وجاهة يحملنا على الاعتقاد بأن جيلنا كان محظوظا، وهو أنه لم يتعرض للأفكار والتوجهات النشاز التي كان يبثها - خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي - دعاةُ الانغلاق والتطرف والاقصاء والكراهية والعنف. فلم يسبق لأبناء ذلك الجيل أن مروا بتلك الدهاليز المعتمة المتعرجة.