بين النفط والعقل
يتفاوت الناس في مدى تقييمهم ضرورات المرحلة، وما ينبغي لأي أمة تسعى إلى التقدم أن تقوم به، بعضهم يتحدث عن نظام التعليم، وبعضهم عن الحريات، وآخرون عن القانون وغير ذلك، وكل تلك الأمور بالتأكيد مهمة، ولكن قد يفوت على هؤلاء أن أهم عامل أسهم في بناء أمم متقدمة صناعياً وعسكرياً، وفي كل مناحي الحياة، هو تقدير العلماء، واستقطابهم من الخارج، ومنحهم الدعم القادر على إبراز نتاجهم العلمي والصناعي. استنساخ نظم تعليمية متقدمة، وكذا قوانين متقدمة وغير ذلك، هو بلاشك أمر مهم، يمكن له أن يسهم في التقدم، ولكن صناعة فرق يمكن وصفه بالكبير والمؤثر لا يكون إلا بعلماء أفذاذ، يملكون القدرة بعقولهم العظيمة على تقديم إنتاج علمي، صناعي، تكنولوجي، عسكري وفي أي مجال آخر بكل كفاءة وإبداع.
في هذا العالم الواسع، وفي كل زمان هناك عقول مبدعة قادرة على تقديم الكثير. في أغلب الأحيان يبحث هذا“العقل”عن بيئة تدعم قدراته البحثية، وتتيح له تحقيق النتائج التي يسعى إليها، كما تمنحه المال، وبيئة الحياة التي تناسبه. ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً وغيرها بشكل أقل هو البحث عن هذه العقول واستقطابها ودعمها بكل ما تحتاجه لكي تنجح، والنتيجة هي أفضل وأعظم الأسلحة، وأفضل المستشفيات، والعدد الأكبر من الاكتشافات الطبية وأصناف الأدوية، وكذا التكنولوجيا، وصناعة السيارات والطائرات وغيرها، كل ذلك إنما صنعه العقل المبدع الذي تم استقطابه ومنحه كل ما يحتاجه ليبدع.“رؤية المملكة 2030”تهدف إلى نهضة شاملة لاسيما على المستوى الاقتصادي، وفي اعتقادي أنَّ صناعة“الصناعة”تحتاج إلى مشروع قائم على استقطاب العلماء، وتطوير الجانب البحثي والصناعي، بحيث نستطيع تقديم نتاجٍ ذي قيمة متميزة عالمياً. حتى مشروع استنساخ التكنولوجيا يحتاج إلى استقطاب مثل هذا.
لا ريب تماماً في أن مصير ستيف جوبز“سوري الأصل”سيكون لاجئاً مشرداً، أو ميكانيكياً، أو في أفضل الأحوال طبيباً، أو مهندساً لو بقي في سوريا، أما الآن فهو من أهم مَنْ صنع فرقاً في التاريخ، والحال هو الحال مع كارلوس منعم، وأوباما، اللذين أصبحا رئيسَي دولتين. الفكرة هنا أن تقديس الإنسان، وتقديس كفاءاته وقدراته، ومنحه البيئة الصالحة للإبداع، وإن كان من خارج حدود الدولة، هو ما يمكن أن يسهم في تقدم البلاد بشكل مميز. مثلما تستقطب الأندية الرياضية أفضل اللاعبين لكي يسهموا في تطور فرقهم، والحصول على البطولات، كذلك هو الحال في تطوير البلاد. في تصوري أنَّ وزارة الصناعة، ولكي تقوم بثورة صناعية مميزة، تحتاج إلى استقطاب العلماء ومنحهم الدعم، وتوفير البيئة المناسبة لتأسيس صناعات ذات جدوى اقتصادية متميزة. لا يمكن لنا بناء نهضة اقتصادية دون بناء صناعة حقيقية.“أرامكو السعودية”بدأت بأيدي أمريكية في قياداتها حتى تحوَّلت فيما بعد إلى سعودية. الاحتذاء بصناعة النفط في مراحله الأولى، وصناعة صناعات أخرى بعقول وعلماء أجانب، وتحويلها بعد ذلك إلى شركات سعودية تماماً، هو مشروع لا ينقصه إلا المبادرة، ولو حصلت لاستطعنا المضي قدماً في بناء اقتصاد متنوع، ينهض ببلادنا، أما دون ذلك فأتصور أننا سنضيِّع البوصلة، وسنسير بمنوال أبطأ بكثير مما ينبغي.