آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 4:17 م

العِيار اللي ما يصيب يدوش

حسن السبع صحيفة اليوم

كذلك تبدو الصورة النمطية مزعجة و«تُدْوِش» أحيانا. فهي مجحفة وبعيدة عن الموضوعية، وغالبا ما تحكم على مجتمع بمكوناته المتنوعة من خلال تفكير أو سلوك فئة قليلة.

يلتقي اثنان من بيئتين أو ثقافتين مختلفتين فيتكون لدى أحدهما انطباع جيد عن الآخر، وحين يعرف إلى أية بيئة أو ثقافة ينتمي صاحبه يصاب بالدهشة، وربما بالنفور. وبهذا تُصنع للآخر من هوية الخارج هوية داخلية، مع أن الداخل مستودع أسرار ومفاهيم وقيم وقناعات مختلفة عن تلك الصورة النمطية المتعارف عليها. وهكذا يَزِرُ المعتدل وزرَ المتطرف، ويزر صاحب السلوك الحضاري السوي وزرَ المتخلف.

يقال «لا دخان من دون نار». لذلك فإن تلك الصورة النمطية لم تأتِ من فراغ. لنأخذ على سبيل المثال سلوك بعض المهاجرين الذي ساهم في تكريس تلك الصورة النمطية، وجعل بعض البلدان الغربية تعيد النظر في قوانين وشروط الضيافة.

لكن، لنطرح قبل ذلك السؤال التالي: ما الذي يدفع المهاجر إلى الرحيل عن مسقط رأسه؟ ففي الظروف الاعتيادية المستقرة لا يرغب أحد في مغادرة بلده أو بيته إلى جهات العالم الأخرى إلا بصفة طالب علم أو رجل أعمال أو سائح، ثم يعود مرددا قول الشاعر أحمد شوقي «لا شيءَ يَعْدِلُ الوطنْ». وفي هذا الشرق الأوسط كل مقومات الحياة. فيه كل الإمكانات التي توفر لسكانه العيش الرغيد: ثروات طبيعية، بحار وأنهار وغابات، طبيعة فاتنة، آثار حضارات قديمة، تراث ثقافي عريق، وطاقات واعدة لا تحتاج، كي تبدع، إلا إلى مناخات اجتماعية وثقافية ملائمة.

فما الذي يجبر أبناء هذا العش الجميل الدافئ على النزوح إلى أصقاع أخرى؟ لماذا تهاجر الكفاءات والعقول؟ ولماذا يبتلع البحر قوارب الفارين من بلدانهم؟ ولماذا يحتمل الناجون منهم العيش في شتاء ووحشة الاغتراب؟

لا يحتاج المرء إلى كثير من الذكاء للإجابة عن هذه الأسئلة ومعرفة دوافع وأسباب تلك الهجرات القسرية، وفي مقدمتها الأوضاع المعيشية الصعبة، وانعدام الأمن والاستقرار، والحروب الأهلية، وفقدان الحرية. لتلك الأسباب وغيرها تتدفق موجات اللاجئين إلى بلدان العالم المختلفة طلبا للرزق والأمن والحرية.

فماذا يحدث بعد ذلك؟ إن ما يحدث بعد ذلك هو ما يكرس تلك الصورة النمطية. حيث يشكو سكان البلدان المضيفة من أمور أهونها عدم قدرة المهاجر على التكيف والاندماج. غير أنه لا يمكن أن نلقي باللائمة على المهاجر وحده. هنالك عوامل وظروف تعيق ذلك الاندماج أو التأقلم، ومنها أن الأغلبية في المجتمع المضيف تنظر إلى اللاجئ باعتباره وافدا حتى لو اندمج في المجتمع الجديد. والذين تناولوا ظاهرة التمييز في تلك المجتمعات يعترفون بأنها مسألة تربية في المقام الأول؛ تربية تجعل المرء في كل مكان ينظر نظرة فوقية إلى غيره. ولذلك لم تستطع خطب ومواعظ مناهضي التمييز محوَ مشاعر العداء للآخر المختلف.

غير أن هذا لا يبرر الممارسات التي يقوم بها بعض المهاجرين، والتي تولد انطباعات سلبية لدى المواطن الأصلي. فالمسؤولية مشتركة. وهنالك ما هو أسوأ من صعوبة الاندماج، هو عدم مراعاة الخصوصية الثقافية للبلدان المضيفة. فقد ينسى بعضهم ما واجهه من مخاطر قبل أن يصل إلى مهجره، وما أن يجد له موطئ قدم حتى يبدأ في ممارسة بعض رواسبه المخالفة لشروط وقوانين الإقامة.

أراد بعض المهاجرين القدامى الذين سبقوا موجات الهجرة الجديدة ترتيب بيت المضيف وفقا لتصوراتهم. أما موجات الهجرة الجديدة فقد ساهمت في صعود اليمين المتطرف. يرى المعنيون بهذا الشأن أن أحد أسباب صعود ذلك التيار العنصري المعادي للأجانب هو قضية المهاجرين واللاجئين الذين يتدفقون إلى أوروبا سواء بشكل شرعي أو غير شرعي. حيث يشكل هذا العدد الكبير من المهاجرين عبئا اقتصاديا وضغطا اجتماعيا وثقافيا على المجتمع المضيف.

لكن الإساءة لا تقتصر على البلد المضيف وحده، بل تطال المهاجرين المنتجين والمندمجين اجتماعيا. بعض هؤلاء المهاجرين قد تقلد في بلدان الغرب مواقع إدارية وقيادية وأكاديمية مرموقة، وحقق بعضهم حضورا أدبيا وفنيا ما كان سيتحقق لو لم ينتقل إلى ذلك المحيط الثقافي المنفتح بمؤسساته الثقافية الرسمية والأهلية. هؤلاء هم الضحية؛ ضحية الصورة النمطية السلبية التي لا تستثني أحدا. فقد تَزِرُ الفئةُ المندمجة اجتماعيا والمنتجة وزرَ أولئك الذين ينقلون «خرائبهم» معهم أينما ذهبوا. وإذا لم يحدث ذلك، فإن «العِيار اللي ما يصيب يدوش» كما يقال.