أساطير التجارة الحرة
يبدو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مصرًا على بناء جدارٍ مع المكسيك، إلى درجة توتير العلاقة بين البلدين، والتلويح ببناء الجدار من ضرائب تُفرض على الواردات المكسيكية للولايات المتحدة. قام ترامب أيضاً بالانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، وهي اتفاقية كان هدفها أمريكيًا احتواء الصين، بإنشاء تكتل تجاري يطوِّقها، ويعطي أيضا تسهيلات وامتيازات للشركات الأمريكية الكبرى، لتستثمر في شرق آسيا. من الواضح أن كل هذه الخطوات تأتي في إطار التصور الانعزالي لترامب، فهو يؤمن بضرر التجارة الحرة والانفتاح الاقتصادي على الطبقة العاملة الأمريكية، إذ هاجرت المصانع الأمريكية إلى الصين وشرق آسيا، بحثاً عن توسيع أرباحها بالاعتماد على اليد العاملة متدنية الكلفة، فزادت البطالة في أوساط العمال الأمريكيين.
أنصار العولمة يرون أن خطوات ترامب تقوِّض منجزات الانفتاح الاقتصادي والتجارة الحرة، لكن العولمة بتطبيقاتها التي شاهدناها كانت تجسيدًا لفكرة بناء الجدران بين الأغنياء والفقراء، إذ لم يتوقف بناء الجدران المادية والقانونية في أوروبا وأمريكا لمنع المهاجرين الهاربين من فقر دولهم أو حروبها من الدخول، مع العلم أن أمريكا ودول أوروبا الغربية ساهمت بسياساتها وتدخلاتها على مدى عقود في إفقار هذه الدول وتدميرها، ودفع الناس للهرب منها. الملفت، أن جدران العولمة لم تقتصر على توسيع الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة، بل زادت الفجوة بين أغنياء الدول المستفيدة من العولمة وفقرائها، وظاهرة ترامب ترجمة لغضب شريحة واسعة متضررة من جشع شريحة صغيرة متنفذة، راكمت أرباحها وثرواتها على حساب بقية الأمريكيين.
في الحقيقة، لم تكن العولمة والتجارة الحرة قانونًا مقدسًا لا يقبل المساس، وبينما كانت الدول الصناعية المتقدمة تدعو الدول النامية لفتح أسواقها دون قيود، لتُسوِّق الشركات الغربية الكبرى منتجاتها، تعاملت مع العولمة بانتقائية، وإضافةً إلى إقامة الجدران لمنع انتقال البشر إليها، قامت هذه الدول بوضع القيود والحواجز أمام صادرات الدول النامية من المنتجات الزراعية أو الملابس إليها، واستمرت في دعم منتجاتها الزراعية عند مستويات مرتفعة. ترامب يقود حملة لتعزيز هذا الجانب، بعد ظهور الآثار السلبية لهجرة المصانع الأمريكية إلى آسيا.
الداعون عندنا للتجارة الحرة، وإلغاء القيود على الاستثمارات الأجنبية، لم يراجعوا مسار العولمة وإفرازاتها، وأساطيرها، ليكتشفوا أنها ليست حتمية تاريخية، وأن الانتقائية في التعامل معها ممكنة، بل ضرورية. ما زال للحدود معنى، فهي لم تختفِ، والدول التي أنجزت تنمويًا انتقت من العولمة ما يناسب مصالحها الوطنية، ولم تفتح أسواقها بالكامل للمنتجات الأجنبية.