مواجهة التحديات
قال تعالى: ﴿و َإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ «آل عمران الآية 186».
عند حلول المصائب والمحن تتمايز الإرادات ويتجلى التفاوت بين الشخصيات قوة وضعفا، فهناك من يحمل في فكره ومشاعره صورة حالمة وخيالا واسعا عن حقيقة الحياة، فيتأقلم في مسعاه على أن عجلة الزمن تسير وفق هواه ومشتهياته، ولم يدر بخلده أبدا أن عاصفة عاتية من المتاعب والتعثرات والإخفاقات والمصائب ستداهمه وستلون مجريات أيامه وعليه الاستعداد لمواجهتها!!
ولا يبقى عصيا على الانجراف بسبب توالي التيارات القوية سوى من يحمل قدرة على تحمل الألم، ويتكيف مع الأوضاع الصعبة دون أن يصاب بالتقهقر أو الضجر، والأمل الذي يضمه بين جوانحه يجعله يبحث عن حلول ومخارج ممكنة، ولا يخرج عن اتزانه الفكري والعاطفي في اللحظات العصيبة، فيغدو جسدا خاويا من أي إرادة وعزم على إثبات وجوده وما يمتلكه من قدرات تعينه على تجاوز الشدائد.
البعض ممن يتملكه الضجر واليأس ويرفع راية الاستسلام مع كل عقبة أو خيبة أمل يصاب بها، يعيش ضنكا من العيش ويبقى أسيرا للقلق والهواجس من مجريات الأيام القادمة، فإحساس الضعف والتعاجز عن مواجهة الصعاب ينخر إرادته، ويبديه فريسة سهلة لأي عقبة يقع في قبالتها، فسرعان ما ينهار وتسود الدنيا في وجهه وييأس من حدوث أي انفراجة في مصيبته، ويمسك يده عن أي محاولة للبحث عن معالجات تساعده على الخروج من المأزق، فتكون مصيبته في وهن عزمه وتكبيل إرادته وهمته أعظم وأفدح!!
ومن علائم الصبر حالة الاتزان الفكري والوجداني والسلوكي في أوقات الشدة والألم والحزن، فلا يصدر منه ما يعاب عليه أو يقبح فعله من أهل الوقار والحكمة، فرداء الخطوات والقرارات المتأنية الواعية لا ينزعه أبدا مهما كانت الظروف القاهرة، إذ رأس ماله والجوهر المقوم لشخصيته هو رشاد عقله واستقامة تصرفاته، ومتى ما تخلى عنها في لحظة يأس أو قهر أو عصبية فإنه يتحول إلى وحش كاسر وشخص ظالم يؤذي كل من حوله، ويستطيب الرد بالإساءة والبدء بالجهالة مما يسقطه عن المعية الإلهية ومن أعين الناس المعجبة بمواقفه العقلائية، ويبوء بخسران نفسه.
والصبر لا يقتصر على مواجهة الصعاب بهمة وتحد، بل تصبغ القدرة العالية كل نواحي حياته، ففي علاقته بربه ولزومه لمحراب العبادة والمناجاة يحتاج إلى حبس النفس لتجنب الملل والتكاسل والتخلي عنها، فالظروف المحيطة بالصلاة أو الصدقة وغيرها تشكل موانع وحواجز قد يسقط البعض عندها، فينشغل بملذات الدنيا فلا يستشعر الأنس بذكر الله، وينخر الشيطان الرجيم نفسه فيستجذر فيها الشح والتعاجز والميل إلى الدعة وطلب الراحة بنحو مستمر.
فالصبر على الطاعة يعني ملازمة الطاعة وتوطين النفس على تجاوز أشواك وفخاخ الشيطان، حتى تسكن في نفسه لذة الطاعة فلا يطيق بعدا عن مصدر قوته وطمأنينته.
والصبر يحضر بنحو دائم لمن يطلب الورع والعفة والاستقامة والعصمة من الزلل والانزلاق في مهاوي الخطيئة، فللمعصية زينتها التي تغري العبد الضعيف الذي سرعان ما يستجيب لها ويلهث خلفها، ولا يمنعه عن ارتكابها سوى الصبر على المعصية بتجنب أسبابها وتذكر نتائجها الوخيمة عليه، فإن الله تعالى مطلع عليه في خفائه وعلنه، وسيجد ما ارتكبه من سيئات ماثلة في صحيفة عمله ليعاقب عليها.
والصبر يحضر بقوة في علاقاتنا الأسرية والاجتماعية، فالتعامل بين الزوجين يرتقي لحالة الحب ويتجاوزون به الهفوات والخلافات متى ما كانت لهما قدرة على كبح جماح النفس عن استطالة اللسان وعبثه شتما واتهاما، ويظهر عندهما خلق التغافل والتسامح عندما يحافظان على أكبر قدر من ضبط النفس وتجنب الخطأ والإساءة في حق الآخر.
وتربية الأبناء تتطلب أكبر قدر من التصبر على أخطائهم وتقصيرهم؛ لئلا يتجه الوالدان نحو العقوبة الدائمة والغلظة في التعامل، فزرع السلوكيات الحسنة والمقبولة كزراعة الشجر تحتاج لعطاء وتشجيع لزمن طويل حتى تظهر ثمارها.
والصبر في العلاقات الاجتماعية يجنبنا ويلات المشاحنات والقطيعة، والتي أطلت برأسها بقوة في حاضرنا، فيكفي موقف أو خطأ بسيط ليشعل فتيل الاحتراب، فيعيش أطراف المشكلة ومن حولهم حربا شعواء تعري الجميع في النهاية من الحكمة والرشاد والحكمة في التعامل.