العشق العنيف
يقول نزار قباني في رثائه زوجته بلقيس:
بلقيس يا وجعي
ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل
هل يا ترى
من بعد شعرك سوف يرتفع السنابل؟
هذه القصيدة عندما قرأتها ولدت في نفسي سؤالاً تأملياً له صلة بفلسفة الحب والعشق، وهو: ماذا نتوقع أن تكون الحياة التي تخلو من مفردة العشق والحب؟
الحياة التي تخلو من مفردة الحب أو العشق أشبه بأرض جرداء أو صحراء قاحلة تفتقر إلى الماء والزروع والعشب وجميع مقومات الحياة.
فحاجة الإنسان إلى العشق والحب كحاجة الأرض الجذباء إلى الماء.
فالحب ضروري لا غنى للإنسان عنه، فمنه تنبثق مجموعة من الفضائل والقيم كالإخلاص والوفاء والتضحية والإيثار والإقدام.
فهذه المفردة على قلة حروفها إلا أنها تختزن مخزونا دلالياً عميقاً من المشاعر الإنسانية التي تسمو بالإنسان وتحلق به نحو المثل والقيم.
والحب أحد مصادر إلهام الشعراء من خلاله يعيشون الهيام والوله والوجد ونحو ذلك من المشاعر، كعشق نزار قباني لزوجته بلقيس التي كانت مصدرا لإلهامه في مماتها وحياتها والنافذة التى يرى من خلالها الأشياء.
وبه العارف يعيش حالة الذوبان بالمعشوق، كعشق العارف بالله السيد علي القاضي بالذات الإلهية وتعلقه بها لا على نحو الاتحاد والحلول. وهذا العشق الحاصل له عن طريق المجاهدات النفسية والرياضات الروحية قد انعكس على حياته فقضاها بكل هدوء وسكينة واطمئنان رغم ضيق حاله وعوزه وفقره المدقع.
ولا ننسى في هذا المقام عشق وذوبان محي الدين بن العربي بمعشوقه «الذات الإلهية».
بعد هذه السطور التي كانت عن العشق نعرج على ما له صلة بعنوان المقال:
هذا الإنسان الذي طالما يحب سماع هذه المفردة ويتلذذ بترديدها يصاب بالدهشة والتساؤل عند سماعه أن هناك عشق عنيف. إذ لا يتصور انطواء الحب على عنف وغلظة، فمن هنا يتساءل: ما علاقة العنف بالحب؟
الحب هو عشق وذوبان، فاجتماعه مع العنف هو اجتماع ثنائي متناقض. إذ ليس بالإمكان أن نتصور اجتماع هذه الثنائية المتناقضة في بوتقة واحدة إلا إذا عرفنا المراد منها:
العشق العنيف: هو تعارض الرغبات الذاتية لفرد ما مع مصالحه التي يجهلها ويعلمها آخر.
وبصياغة آخرى: العاشق لا يتلفت إلى الحالة النفسية للمعشوق ولرغباته، بل كل همه تحقيق مصلحة المعشوق.
ولترجمة هذا التعريف نستحضر شواهد حية من واقعنا المعاش:
- عندما يكون لديك طفل يرغب في أكل الحلوى بكثرة مما يؤدي إلى تسوس أسنانه وتمنعه عن أكلها لعلمك بأضرارها على أسنانه.
فهنا تتعارض الرغبة الذاتية للطفل مع مصلحته التي يجهلها. فجهله بمصلحته وعدم إظهارك إياها له يقوده إلى تفسير سلوكك ومنعك إياه بأنه نابع من كرهك إياه وحقدك عليه لا من حبك له.
- معلم يظهر حزمه وجديته الزائدة على طلابه انطلاقاً من حبه وحرصه على مصلحتهم الغافلين عنها إلا أن الطلاب يفسرون سلوكه بالكره لهم.
فهنا سلوكه يعرف بالعشق العنيف باعتبار أن مصالح الطلاب التي يراها المعلم تصطدم مع رغبات الطلاب الذاتية.
الآن بعد أن عرفنا المقصود من العشق العنيف نتساءل: ما هو السبيل الذي ينبغي أن نسلكه لنشعر أطفالنا بأن تصرفاتنا نابعة من حرصنا على مصلحتهم ومنطلقة من حبنا لهم لا من كره أو حقد؟
السبيل هو معرفة النفس البشرية التي غالباً ما تتحرك نحو تحقيق رغباتها دون الانتباه إلى مصالحها. وهنا يكون دور المربي العمل على إيجاد منهج سلوكي متوائم، يوائم فيه بين تحقيق رغبات الطفل الذاتية ومصلحته التي يجهلها. وكذلك البحث الجاد عن أساليب اقناعية وأدوات بيانية، من خلالها نبين للطفل سلوكنا بأنه ناشئ من حرصنا على مصلحته وحبنا له. فافتقارنا للمقدرة على اقناع الطفل وعدم المواءمة بين رغباته ومصلحته سيبقي تفسير الطفل السلبي لسلوكنا اتجاهه قائما.