معراج لذة القرب الإلهي، ح/5
وساعة يناجي فيها ربّه:
كلنا يعلم أنّ الله - جل جلاله - قد أمرنا بدعائه، ووعدنا الاستجابة لدعائنا.
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ سورة غافر، 60
ولنتدبر في هذه الآية المباركة.
قوله تعالى: ﴿وقال ربكم ادعوني أستجب لكم﴾ يقول العلامة الطباطبائي - رضوان الله تعالى عليه - إنّ هذه " دعوة منه تعالى لعباده إلى دعائه، ووعد بالاستجابة، وقد أطلق الدعوة والدعاء والاستجابة إطلاقًا. [1] .
ذلك أنَّ ”صريح الآيات والأخبار [كما يقول أحد العارفين] يثبت التّسبيب بين الدعوات والإجابات، وبين الصَّدَقَات ودفع البلايا وجذب البركات، وبين الصّلات وزيادة الأموال والأعمار والأولاد.“ [2] وذلك على نحو القضية الشرطية، والمقدم والتالي، وكالمقدمة والنتيجة، والسبب والمسبَّب، كما تفيده المعطيات الإسلامية.
وخصوصًا حينما تتحقق عند الإنسان المؤمن الثقة بالاستجابة، كما يقول الشهيد مطهري - قدِّس سره - والتي تعني: ”الإيمان واليقين، الإيمان بالرحمة اللامتناهية لذات الباري، الإيمان بأنه تعالى لا يمنع من فيضه أبدًا، ولا يبخل به على أحد، الإيمان بأنّ باب الرحمة الإلهية لا تغلق على عبد أبدًا، وأنّ النقص والقصور - إذا كان - فهو من جانب العبد نفسه.“ [3] .
وهذا ما أكّده السيد الإمام - قدِّس سره - حيث يرى، كذلك، أنّ "عدم ظهور الفيض والإفاضة من قِبل نقصان الاستعداد. فإذا استعد القابل لقبوله، يفاض عليه من الخزائن التي لا تبيد ولا تنفد، ومن المعادن التي لا تنتهي ولا تنقص.
فينبغي للداعي أن يبالغ في تنزيه باطنه وتخلية قلبه من الأرجاس والملكات الرذيلة؛ حتى يسري دعاء قاله إلى حاله، وحاله إلى استعداده، وعلنه إلى سره؛ ليستجاب دعاه، ويصل إلى مناه. " [4]
فإنّه يوجد ”فرق كبير [كما يقول الشهيد مطهري - قدِّس سره -] بين تلاوة الدعاء، والدعاء الحقيقي، فإذا لم يواكب قلبه لسانه، ولم ينسجم معه، فلا يعد ما يدعو به، دعاءً حقيقيًّا وجديًا، فلا بدّ [إذًا] أن ينبثق الطلب والاحتياج، ويتدفق من أعماق الإنسان، بصورة جديَة وحقيقية، لا بدّ أن يبدو الاحتياج الحقيقي في كيان الإنسان كلّه...“ [5]
فإنّ قلب الإنسان - كما يقول السيد الإمام -: ”إن القلب بحسب فطرته وجبلته إذا تعلّق بشيء وأحبّه يكون ذاك المحبوب قبلةً لتوجّهه.“ [6]
فعلى سبيل المثال، فإن الأشخاص ”الذين يكون في قلوبهم حب المال والرياسة والشرف، فأولئك يشاهدون مطلوبهم في المنام أيضًا، ويتفكرون في محبوبهم في يقضتهم، وما داموا يشتغلون بالدنيا فهم يعتنقون محبوبهم، فإذا حان وقت الصلاة وحصل للقلب فراغ، فإنّه يتعلق بمحبوبه فورًا، فكأنما تكبيرة الإحرام هي مفتاح دكان أو رافعة للحجاب بينه وبين محبوبه، فينتبه وقد سلّم في صلاته، وما توجّه إليها أصلًا، وهو في جميع صلاته كان معتنقًا فكر الدنيا.“ [7]
”ولهذا قال رسول الله - ﷺ -“ حب الدنيا رأس كل خطيئة ”...“ حب الدنيا رأس كل خطيئة ”؛ يقول الشهيد الصدر - قدِّس سره - معلّلًا هذا المعنى..“ لأنّ حب الدنيا هو الذي يفرّغ الصلاة من معناها، يفرّغ الصيام من معناه، يفرّغ كل عبادة من معناها. ”إلى أن يقول:“ ماذا يبقى من معنى لهذه العبادات إذا استولى حبّ الدنيا على قلب الإنسان؟ " [8]
فحينما يستولي حبّ الدنيا على قلب الإنسان، وبعبارة أخرى ”حينما يعمي حبّ الدنيا هذا الإنسان، يسدُّ عليه كل منافذ الرؤية... يصل إلى مستوى بحيث إنّ الإنسان لا يرى شيئًا إلا ويرى الدنيا فيه وقبله وبعده ومعه. حتى الأعمال الصالحة تتحوَّل عنده وبمنظاره إلى دنيا، تتحول عنده إلى متعة، إلى مصلحة شخصية، حتى الصلاة، حتى الصيام، حتى البحث، حتى الدرس، هذه الألوان كلّها تتحوَّل إلى دنيا. لا يمكنه أن يرى شيئًا إلا من خلال الدنيا، إلّا من خلال مقدار ما يمكن لهذا العمل أن يعطيه، يعطيه من حفنة مال أو من كومة جاه. لا يمكن أن يستمر معه إلاّ بضعة أيام معدودة.“ [9]
ولهذا يوصي السيد الإمام - قدِّس سره - الإنسان المؤمن قائلًا: ”فاجتهد لأن يكون سرّك داعيًا وباطنك طالبًا؛ حتى ينفتح لقلبك أبواب الملكوت، وينكشف لسرّك أسرار الجبروت، ويجري فلك عقلك في بحار الخير والبركات؛ حتى تصل إلى ساحل النجاة، وتنجو من ورطة الهلكات، وتطير بجناحيك إلى عالم الأنوار، عن هذه القرية الظلمانية ودار البوار.“ [10]
ولا تتحقق هذه الغاية - كما يرى الشهيد مطهري - قدِّس سره -
حتى ”تتملك وجود الإنسان الرغبة والطلب الجدّي، حيث تصبح كل شرائح وجوده وخلاياه معبرة عن طلبه، ويتحول ما يريده ويرغب فيه إلى حاجة حقيقية... فَلَو شعر الإنسان بالعطش، فإن ملامح عطشه ستبدو عليه واضحة، وتهتف أعضاؤه كلها طالبة، الماء: الفم، والكبد، والمعدة، والشفة، واللسان، وحتى لو نام في تلك اللحظات فسوف يلوح الماء له في نومه، [كما أوضح ذلك السيد الإمام، سابقًا]؛ لأنَّ البدن يحتاج ويطالب بالماء جديًا، وهذا تمامًا [كما يقول الشهيد مطهري] كالاحتياج الروحي والمعنوي في الإنسان، الذي هو جزء من عالم الخليقة والتكوين، الذي يشمل العالم كله، إنّ الروح الإنسانية جزء من عالم الوجود، فَلَو افتقرت لشيءٍ ما، بصورة جديّة وحقيقية، فإنّ جهاز الكون الكبير، لا يهملها، ولا يدعها لشأنها.“ [11]
وفي الحديث: ”إذا دعوتَ فظنّ حاجتك بالباب.“ [12]
فإنّ ”السؤال بلسان الاستعداد [كما يقول السيد الإمام - قدِّس سره -]“ غير مردود، والدعاء به مقبول مستجاب؛ لأنّ الفاعل تامٌ وفوق التمام، والفيض كامل وفوق الكمال. " [13]
والإنسان المؤمن، إذا علم كل ذلك، فإنّه لا يستكبر عن عبادة الله - جل جلاله - برفع يديه لله والتضرع بين يديه تعالى، وكما هو معلوم، وكما هو محسوس، فإنّ ”الإنسان يحس بالذل، حين يطلب شيئًا من غير الله، ولكن حيث يطلبه من الله فيشعر بالعزة، لذلك كان الدعاء طلبًا ومطلوبًا، وسيلة وغاية، مقدمة ونتيجة.“ [14]