الوقت على نصوص التأجيل
يقول: قابلني، والابتسامة ترتسم على محيّاه، وبلسان تنساب حروفه، أنا مشتاق إليك كثيراً، وكل يوم أحاول أن أزورك، لكن الوقت لا يساعدني. فيأتي جواب الصديق باستفهام، لكن زخم التقرير يملأ أعواده، حينما يقول: أي وقت تقصد؟، لتعلو كل أنواع علامات التعجب بسبب هذا السؤال. ويمضي الصديق الأول مكملاً حديثه: يا صاحبي، كثيرون يهجرون أصدقاءهم، والسبب الوقت، كما تقول أنت تماماً. بل الأقارب والأرحام يتباعدون، وتطول بهم الأيام دون أن يتزاوروا، والسبب أيضاً هو الوقت ذاته، كما يدّعون. ولكن هل تحوّل الوقت المسكين إلى مشجب يعلّق عليه كل القصور أو التقصير الذي تتعالى أصداؤه في مضمار هجرنا وصدودنا.
وسواء اتفقنا أم اختلفنا، فإن ثمّة واقعاً سلبيّاً نمارسه تجاه علاقاتنا الاجتماعية، وعلينا أن لا نجافي الحقيقة؛ إذ لدينا الوقت الذي نأكل وننام ونعمل ونقضي الساعات في مقهى شيشة أو ملتقى يجمع بعض معارفنا أو نكون ضمن جلسة نحرص على الالتزام بوقتها كل يوم أو كل ليلة وقد يصل ليشمل كل يوم وكل ليلة، ونعرف كل ذلك، فلماذا لا نعرف معنى الوقت إلا حين نبحث عن مبرر يعالج تقصيرنا تجاه قريب أو صديق أو جار.
لماذا لا نعترف أنّ كثيراً منّا وفي ظلال النمط الحياتي الذي نصفه بالمعاصرة وبالحديث، يقع في أسر مضيّعات الوقت، ويتكون في المشهد اليومي اختلاط لا يفرز الأولويات عن الثانويات، بل إن ما يتكرر هو تقديم الهوامش الثانوية على المتون الأوّلية، وكأنّ هذا هو المسار الخططي الأمثل الذي تقتضيه الحياة «الحديثة».
الذين يرمون بمشاغلهم على الوقت إنما هم واهمون، ولتكرار العادة السلبية سلطة على نظام السلوك الفردي والجمعي، وهذا يؤدي إلى تشكّل حالة تراكمية من الفعل المتكرر إلى أن يسيطر على من يمارسه، ويتحول إلى عنصر رئيس في مجموعة القناعات الذاتية التي تقوم بمقاومة كلّ رأي آخر يشخّص هذا الخلل.
فالانشغال الكامل لأب عن بيته بداعي تزاحم الأعمال التي يديرها من أجل راحة أبنائه وعائلته، هو بالنتيجة النهائية لا يمثل ربحاً حقيقيّاً على ميزان الأولويات الوقتية، وإنما قد يتحول إلى تكدس مستقبلي من الخسارة التي لا يمكن تعويضها أو تفاديها.
واستغراق الشاب في الترفيه المبالغ على حساب التنمية الذاتية هو خسارة أيضاً. وإن عدم الاستثمار الأمثل لمورد نادر مثل الوقت، ينتقل ليكون حالة تعويق للمسار الذي يحقق سلّة الأهداف. فما الانجذاب التائه إلى الثانويات إلا بطالة مقنّعة تُكرِّس حالة فقد المهارة السلوكية والذهنية، وتؤثر على تكوين الشخصية الإنسانية التي هي في الأصل لديها القابلية على الإبداع والتميز في كل بيئة تحتضن الإيجابية وضمن كل ثقافة تهتم بالريادية والتألق الإنساني.
إن تطور وسائل قياس الانضباط والحرص على الوقت هو مقدمة موجبَة وذات أهمية في تأكيد العادة الإيجابية، لكنّ جهاز البصمة وغيره من هذه الوسائل، قد يهدره إهمال موظف لا يعلم أين وضع معاملة مراجع، وهذا كلّه مرتبط بقضية الوقت وإدارة الوقت كمفهوم إداري صار يتشارك مع كل حركاتنا وسكناتنا التي تختزنها مستودعات الذاكرة السحابية في هذا العالم الذي صارت عوالمه الافتراضية تتزاحم مع واقعياته، وهذا يتطلب إدارة مثلى للحظات قبل الساعات، كما هو حال بعض الألعاب الرياضية التي يشكّل الجزء من الثانية معنى كبيراً، كما في كرة السلة التي توصف بلعبة الثواني، أو كما في سباقات السرعة في ألعاب القوى وفي رياضة الفروسية وغيرها من أنشطة حركية، إلى بقية الألعاب الذهنية والأنشطة الفكرية والعلمية، ف «الفيمتو» ثانية التي توصل إليها العالم العربي الكبير أحمد زويل يفترض أنه يحرّك نزعة اهتمامنا بالوقت الذي صار أغلبه يهدر بين السّهر الذي أقحمته حياة الرفاهية إلى بيوتنا ونفوسنا وجلساتنا وحياتنا، ونسينا صحتنا ونظامنا الغذائي الذي يمر بحالة إرباك صار الغداء والعشاء كما يسميه بعضنا «غشاء»؛ بسبب حجم الفوضى التي انتهكت قيمة الوقت الذي قرأنا وسمعنا عن أجدادنا وأسلافنا كيف كانوا يديرون أوقاتهم رغم بساطة حياتهم، بينما نحن صرنا نردد عبارة أن الوقت يطير، لكننا لم ننتبه إلى أن يكون أحدنا هو الطيّار.