آخر تحديث: 4 / 12 / 2024م - 10:38 م

التعطش إلى الفنون «3»

ابراهيم الزاكي

في الواقع إن متانة وحيوية أي مجتمع لا تكمن فقط في قوته المادية وثرواته الاقتصادية وقوته العسكرية، وإنما أيضاً في قوته الثقافية، وفي قدرته على استثمار موارده المادية والبشرية للرقيّ بأفراده فكرياً وأدبياً واجتماعياً من خلال إنشاء المؤسسات القادرة على مد جسور التواصل مع الناس، والقادرة على إدارة وتنظيم واستيعاب مختلف القدرات والإمكانيات والمواهب والطاقات، وتوجيهها بما يخدم أولويات وأهداف المجتمع في التنمية الثقافية والمعرفية، وتشجيع أفراده على بناء وإبراز مواهبهم وقدراتهم الخاصة، وتنمية مهاراتهم في شتى المجالات المختلفة من أجل الارتقاء بالإنسان فيه نحو الأفضل والأمثل.

إن ما يقام من مهرجانات وفعاليات كشفت وتكشف عن أن مجتمعنا يزخر بمثل هذه الموارد البشرية، والطاقات المجهولة، أو المغيبة والمهملة، والتي متى ما اكتشفت وعُرفت، وأتيح لها الفرصة، انطلقت وأبدعت وأعطت. إلا أن السؤال المهم هو كيف يمكن التعرف على هذه الطاقات واكتشافها، واحتضان المواهب والقدرات وتوجيهها، وبلورة وصقل المواهب المكتشفة بالطرق والوسائل المناسبة؟ وكيف يمكن تكوين وبلورة الأطر المناسبة التي من خلالها تستطيع هذه المواهب تنمية قدراتها وصقلها وتطويرها؟

لقد بات الاهتمام بشريحة الشباب وتوجيهها أمراً ضرورياً وملحاً في هذا الزمن، بعد أن أصبحت هذه الشريحة من القوة والتأثير في حراك المجتمعات بشكل لا يمكن تجاهله، سواء كان هذا التأثير في إطاره الإيجابي، أو في إطاره السلبي، وهو أمر عائد إلى الطريقة التي يتم بها إدارة وتوجيه هذه الفئات الشابة. فإذا أهملت انحرفت، وكانت مصدر إزعاج وتخريب. إما حين يتم استثمارها بالشكل الصحيح فسوف تكون مصدر للنماء والرقي والتحضر.

وعليه فإنه من الجدير بنا التفكير في طرق استثمار هذه الطاقات الجبارة وروحها العالية بالشكل الأمثل في سبيل ترسيخ مفاهيم اجتماعية وثقافية ترتقي بالمجتمع وأفراده، والاستفادة من زخم هذه الروح في محاربة كل الظواهر السلبية التي تعصف بمجتمعاتنا، وفي مواجهة الأفكار الإقصائية المتطرفة التي نعاني من ويلاتها، بالإضافة إلى مواجهة ثقافة العولمة وإفرازاتها، حيث تسطح ثقافة المجتمعات وسلبها خصوصياتها، وصياغتها وفق النموذج المهيمن قصد السيطرة عليها.

وفي هذا السياق ربما يحسب البعض بأن الفنون هي أعمال ترفيهية فقط، من خلال إقامة بعض الأنشطة والفعاليات في أوقات الأعياد والمواسم لنشر البهجة والفرح بين الناس، بعيداً عن صخب الحياة اليومي، أو هي مجرد وسيلة للترويح عن النفس في أوقات الفراغ وتفكيك الروتين اليومي، أو هي ممارسة لبعض الأنشطة في أماكن وصالات خاصة تتيح للفرد العائد إلى بيته وعياله، بعد يوم عمل طويل وشاق، أو خلال أيام العطل والإجازات، القيام بالأنشطة التي تريح بدنه وذهنه.

غير أن الواقع يشير إلى أن الفنون ليست أمراً ترفيهيا فقط، بل هي أوسع من كل ذلك بكثير، وتعد مؤشراً على وعي أي مجتمع ورقي ثقافته. فبالإضافة إلى كونها أنشطة تروح عن النفس، وتهذب العقل والعواطف والسلوك والذوق، وترقق الأحاسيس وتنميها، وتلين الطباع وتنزع توحش النفس، فإنها إلى كل ذلك هي أيضاً جزء من مفهوم الثقافة الواسع. فكلمة ثقافة تستعمل في العصر الحديث للدلالة على الرقيّ الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات، وما يتمايزون به عن غيرهم.

والثقافة بمعناها الواسع تعني الكلُّ المركَّب الذي يتضمن المعارف والعقائد والقيم واللغة والمبادئ والفنون والأخلاق والسلوك والقوانين والعادات والتجارب. وحسب أحد التعريفات فإن الثقافة تشمل ”جميع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تميز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات“.

وعليه فالثقافة بهذا المعنى هي إبداع وانجاز وابتكار، وإضافات مادية وفكرية في كل ميادين الحياة، علماً وفناً وأدباً وخلقاً وسلوكاً، لينتج من ذلك كله نمط عيش وحياة. فهي تغيُّر دائم، كونها تشكل وعي الإنسان بالواقع والحياة، وتعبر عن عمله وفعله ونشاطه ووعيه بذاته وبالآخرين، وتعبر عن علاقته بالواقع ومدى تأثره به وتأثيره فيه، والإفادة منه لمصلحته. فالإنسان الواعي المثقف يعمل على إنتاج الثقافة وإعادة إنتاجها ضمن حيزه الاجتماعي، خالقاً واقعاً جديداً معاشاً يتوافق مع المفاهيم الجديدة، والتي تتجلى بها وعبرها هوية الفرد والمجتمع.

إن السؤال الذي يمكن طرحه ونحن نختم هذه المقاربة هو: هل تزيد هذه المهرجانات والفعاليات والأنشطة المصاحبة لها من شأن الثقافة وأهميتها في مجتمعنا، وتساهم في تنشيط حركة الثقافة والفكر والأدب فيه، وتضخ في بنيته الثقافية روحاً تفاعلية خلاقة تتجاوز حدود المظاهر المخادعة؟ أم أنها مجرد حالة عابرة، وكرنفالات صاخبة، وتضخيم إعلامي مبالغ فيه، وأمراً ثانوياً محدود الأثر، لن يقدم ولن يؤخر، ولن يؤثر في البنية والتركيبة التحتية لثقافة المجتمع؟

هذه الأسئلة وغيرها يمكن أن تكون مختبر نقيس ونتفحص من خلالها معنى كل هذه الأنشطة التي نتغنى بها، ونطرب لها، ونعطيها عناوين وأهمية كبيرة. وبناء على الإجابات التي نقدمها ستتحدد أهمية وقيمة ومعنى الثقافة في حياتنا.