آخر تحديث: 23 / 12 / 2024م - 11:33 م

الفاسدون وحب العلم

سراج علي أبو السعود * صحيفة الشرق

حينما يسرق شخص كسرة خبز بريال يسمى وفق القانون سارقاً، وحينما يقوم بائع بمضاعفة سعر سلعة ما من ريال إلى عشرة ريالات مثلاً لتكون نتيجتها: أخذ تسعة ريالات من جيب المواطن دون وجه حق، لا يسمى كذلك، لماذا؟ لأن القانون جرَّم الفعل الأول ولم يجرِّم الثاني، الحرامي بالبلدي هو من يسرق شيئاً يمنع القانون سرقته، ولكن «الحرامي الصالح» هو من يأخذ شيئاً لا يمنع القانون أخذه، انطلاقاً من ذلك فإن الفرق بين بعض أوجه الفساد والسرقة هو القانون المجرِّم للفعل، الفاسد في حقيقته إنسان صالح قانونياً لأنه يعرف تمام المعرفة كيف يستفيد من ثغرات القانون في ممارسة فساده، يعرف كيف يأخذ من دخل الناس بالقانون ما لا يختلف عما يأخذه السارق، كما يعرف كيف يقدم لمن حوله كثيراً من النصائح المفيدة ليجعل منهم فاسدين واقعاً صلحاء قانوناً، وهذا كما أجده المعضلة التي تحتاج لحل.

يتميز الفاسد بثلاث مميزات مهمة: الذكاء الفطري وسرعة البديهة وحب العلم، فأما الميزتان الأوليان فتصنَّفان في زاوية الموهبة والفطرة، أما حب العلم فيحتاج لكثير من السهر والجهد لتحصيله كما قيل: «من طلب العلا سهر الليالي»، في كل نظام قانوني جديد يعمد الفاسد أولاً لدراسته جيداً، لا يستعجل أبداً الثقة في نفسه قبل أن يتأكد أنه بالفعل فهم جميع الثغرات التي تسعفه لممارسته أولاً، ولكي يقنع الفاسدين الذين فوقه أيضاً بأنه شخص فاسد بحق ويمكن الاعتماد عليه، يُدرك الفاسد مثلاً أن سرقة خبز بريال واحد جريمة، ولكنه يُدرك أيضاً أنَّ شراء الأراضي التي تحيط بالمدن والمضاربة في أسعارها لمضاعفتها ومص دم الناس ليست جريمة، هو لا يسرق ريالاً يعاقب عليه القانون، لكنه يأخذ ملايين لا يعاقب عليها القانون، ثم يتلو ذلك بالتبرع ببضعة آلاف لجمعية غسيل الكلى أو روضة أطفال التوحد ليتم وضع صورته في تلك المباني الجميلة وهو يبتسم ابتسامة الشفقة على المساكين الذين لم يصِبهم التوحد ولا الفشل الكلوي إلا منه ومن أشكاله!!! يعتقد بعضهم أنَّ الفاسد هو شخص ينبغي القبض عليه ومعاقبته لأنه يخالف القانون، في حين أنَّه أكثر الناس التزاماً بالقانون وتأكيداً على أهمية المحافظة عليه والتقيد بتعاليمه، وهذه النقطة هي التي تجعله يعيش ويموت دون أن يتحمل وزر مخالفة قانونية واحدة، الصفة الأجمل التي ينبغي أن يتعلمها الفاسدون الصغار من المحترفين المخضرمين هي احترام من هم أكثر منهم علماً وحكمة في هذا البحر العميق، فينبغي تعلم مفهوم المشاركة غير المتكافئة مع المخضرمين، أما إذا سعى لتلك الدرجة فليتأكد أنه لن ينجح أبداً في ذلك.

إنَّ مشروع محاربة الفساد يستدعي العمل على تطوير القانون وسد الثغرات الموجودة فيه، تعليم الناس علم الأخلاق وكثيراً من المُثل والآداب لا يمكنه تحقيق نسبة متدنية من الالتزام، أخلاق الناس الحقيقية كما أدعي هي قانونهم، الله - سبحانه وتعالى - وحده من يريد منا نيةً وقلباً سليماً في الفعل والترك، أما في علم الإدارة: فكن كما شئت فكراً، واعمل ما يلزمك القانون بفعله، لا تحتكر، لا تضارب لرفع الأسعار، ليس لأنَّك مؤمن بهذه المُثل، بل لأن القانون يرغمك على ذلك، أما الضمير فهو بينك وبين ربك ليس لأحدٍ شأن به.