مكونات القوة في فكر «مالك بن نبي»
المفكر ”مالك بن نبي“ «1905 - 1973م» رمز من رموز الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة وقطب من أقطابها، وهو من المفكرين المعاصرين الذين نبّهوا بشدة إلى العناية بمشكلات الحضارة، ويمثل امتدادا ل ”ابن خلدون“ من حيث الاهتمام بفكرة الحضارة.
وقد كتب عن المفكر ”مالك بن نبي“ العديد من الكُتّاب والمفكرين من مشرق العالم العربي ومغربه، ويعتبر المفكر السعودي ”زكي الميلاد“ «رئيس تحرير مجلة الكلمة، وهو صاحب نظرية تعارف الحضارات» من المفكرين البارزين الذين اهتموا بفكر ”مالك بن نبي“، فقد نشر عنه كتابا مبكرا بعنوان «مالك بن نبي ومشكلات الحضارة.. دراسة تحليلية ونقدية» صدر سنة 1992م وجدد طباعته سنة 1998م، وكتب عنه مقالات كثيرة، وشارك في ندوات وملتقيات حوله.
في كتاب المفكر ”زكي الميلاد“ تطرق إلى مكونات القوة في فكر ”مالك بن نبي“، وأشار إلى عناصر ومكونات مهمة وحيوية، تستدعي التذكير بها، والإشارة إليها، وتسليط الضوء عليها من جديد، وهذه العناصر والمكونات هي:
إن المشكلات الأساسية التي تواجه العالم الإسلامي من دون الاقتصار على قطر أو إقليم محدّد، هي تلك المشكلات التي ركزّ عليها ”مالك بن نبي“، وفي مقدمته مشكلة «الحضارة»، ومشكلة «النهضة»، ومشكلة «الاستعمار»، ومشكلة «التبعية»، ومشكلة «الثقافة والأفكار»، ومشكلة «العلاقات الاجتماعية» و«ميلاد المجتمع المتحضر»، وهي في إطارها العام مشكلات الحضارة، العنوان الذي اختاره ”مالك بن نبي“ لتأطير كل مؤلفاته وأبحاثه، وذلك انطلاقا من قاعدة «إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته مالم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، ومالم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها» «مالك بن نبي، شروط النهضة، ص: 19»
وقليل من المفكرين الإسلاميين الذين ركّزوا على هذه المشكلات بالدرجة والنسبة التي تعادل تركيز
”مالك بن نبي“ لها.
تجاوز ”مالك بن نبي“ هذه المعضلة الخطيرة والمدمرة، وجعل من فكره مقبولا على مستوى الساحة الإسلامية بكل طوائفها ومذاهبها، وهذا ما أكسبه قابلية حيوية على الانتشار والامتداد في مختلف أوساط الأمة الإسلامية الممتدة من طنجة في الغرب إلى جاكرتا في الشرق، الأمر الذي يكشف لنا عن عمق أصالة ووعي ”مالك بن نبي“ لقضايا الاستعمار ومشكلات الحضارة في الأمة.
إن الذي لا يعرف ”مالك بن نبي“، قد يتصور لأول وهلة أنه صاحب اختصاص في علم الاجتماع أو الأنتروبولوجيا، أو سوسيولوجيا المعرفة، ولكن لا يخرج اختصاصه عن العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهناك من لا يتوقع أن اختصاصه الأكاديمي هو الهندسة الكهربائية، وهذا الاختصاص أفاده كثيرا من زاوية المنهجية وتنظيم الأفكار والتحليل المنطقي الرياضي للمفاهيم والأفكار، ومن هنا صوّره البعض بمفكر عقلاني صارم المنطق، خاضع لمقتضيات المنهجية الرياضية وحدها.
إن الوعي الذي انطلق منه ”مالك بن نبي“ وشكّل نقطة الارتكاز في العناية بالتخصص الفكري هو رؤيته: «أن كل تفكير في مشكلة الإنسان هو تفكير في مشكلة الحضارة، وبذلك تكون الحضارة في جوهرها عبارة عن مجموع القيم الثقافية المحققة، وإذن فمصير الإنسان رهن دائما بثقافته» «مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص: 100».
ويرى ”ابن نبي“ أن مشكلة العالم الإسلامي ليس في نقص الأشياء وإنما في نقص الأفكار. ولا شك أن ”مالك بن نبي“ قد تقدم بدرجة كبيرة في الحقل الفكري، واكتسب الكثير من ميزات هذا الحقل الهام.
من سمات فكر ”مالك بن نبي“ البارزة والواضحة، روح الفاعلية والديناميكية التي جذرها في أفكاره ونظراته ومفاهيمه. ومن دلائل هذه السمة قوله: «العالم الثقافي في العالم الإسلامي اليوم ليس فقط المسرح الذي يدور عليه صراع الفكرة مع الشيء أو مع الوثن. وإنما هو أيضا مسرح المعركة الذي ينبغي أن ينتصر في صراع آخر، يفرضه عليه منطق الفعالية، إذ ينبغي على الفكرة الإسلامية لكي تقاوم الأفكار الفعالية والخاصة، بمجتمعات القرن العشرين المتحركة، أن تسترد فعاليتها الخاصة بمعنى أن تأخذ مكانها من بين الأفكار التي تصنع التاريخ» «مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص: 142»
وفي مكان آخر يقول: «إن التاريخ لا يصنع بالاندفاع في دروب سبق السير فيها وإنما بفتح دروب جديدة. ولا يتحقق ذلك إلا بأفكار صادقة تتجاوب مع جميع المشاكل ذات الطابع الأخلاقي وبأفكار فعالة لمواجهة مشكلات النماء في مجتمع يريد إعادة بناء نفسه» «مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ص: 220»
وهناك أكثر من عامل ساهم في تأصيل الحالة الديناميكية في فكر ”مالك بن نبي“، منها تركيزه على مشكلات الحضارة، ومعايشتة للاستعمار، ومقارنته بين مجتمعات العالم الإسلامي المتخلفة ومجتمعات العالم الغربي المتقدمة، وكيفية تجاوز هذه الفجوة التي تتسع باطّراد يوما بعد يوم.
ما يميز فكر ”مالك بن نبي“ من هذه الناحية أنه ركّز على جوانب البناء أكثر من جوانب الهدم، وهذا ما أكسبه نقطة تميز لأننا نحتاج في مثل هذه الظروف إلى فكر البناء أكثر من فكر الهدم.
وعن هذه القضية كتب ”ابن نبي“ وهو يتحدث عن موضوع النهضة يقول: «وهكذا حين نتحدث عن النهضة نحتاج إلى أن نتصورها من ناحيتين:
1» تلك التي تتصل بالماضي، أي بخلاصة التدهور وتشبعها في الأنفس وفي الأشياء.
2» تلك التي تتصل بخمائر المصير وجذور المستقبل.
هذا التمييز الضروري لا يتصل بمظاهر الترف العقلي لطائفة من الناس، وإنما يهتم بتكييف حالة شعب وتقرير مصيره، بما في ذلك وضع السائل مادام السؤال موجودا في النظام الاجتماعي. ومن أول واجباتنا تصفية عاداتنا وتقاليدنا وإطارنا الخلقي الاجتماعي، مما فيه من عوامل قتّلة ورمم لا فائدة منها، حتى يصفو الجو للعوامل الحية والداعية إلى الحياة. ولن تأتي هذه التصفية إلا بفكر جديد، يحطّم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع، يبحث عن وضع جديد هو وضع النهضة.
الأولى: سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي.
الثانية: إيجابية تصلنا بالحياة الكريمة». «مالك بن نبي: مشكلة الثقافة، ص: 70»
ومن هنا يتوضح لنا أن ”مالك بن نبي“ مع قناعته بالموازنة بين فكرة الهدم «التجديد السلبي» وفكرة البناء «التجديد الإيجابي»، إلا أن قناعته تتضاعف بالحاجة إلى فكر جديد، أو التجديد الإيجابي حسب تعبيره.
ما تميز به فكر ”مالك بن نبي“ هو أنه أضاف عددا من المصطلحات التي اعتمد ورجع إليها العديد من المفكرين والباحثين في كتاباتهم وأبحاثهم. ومن هذه المصطلحات:
- القابلية للاستعمار.
- ا لأفكار الميتة والأفكار القاتلة.
- الأفكار المطبوعة والأفكار الموضوعة.
كثيرا ما نقرأ لكّتاب ومفكرين، ونرى تشابها ملحوظا وبدرجة كبيرة في الأفكار والنظريات، وحين نقرأ ل ”مالك بن نبي“ نلاحظ أنفسنا أمام نظريات جديدة وإبداعية، وكثيرون كتبوا حول ظاهرة الاستعمار، لكن الذي يستقرئ رؤية ”مالك بن نبي“ يراها جديدة، وهكذا في الثقافة والاجتماع والحضارة والاقتصاد. وهذا الإبداع الفكري لم يكن سطحيا أو قشريا بل كان عميقا، والعمق واضح عليه، وكثير من المفكرين من وصف ”مالك بن نبي“ بالعمق.
بهذه الرؤية يكون المفكر السعودي ”زكي الميلاد“ قد جمع لنا أهم العناصر الأساسية التي تمثل مكونات القوة في فكر ”مالك بن نبي“ وختم ما كتبه عن هذه المكونات بقوله: «هذه بعض مكونات القوة في فكر ”مالك بن نبي“ «رحمه الله» ولا شك أن هناك مكونات أخرى قصرت عن الوصول إليها، وبهذه المكونات يتأكد الرأي القائل بضرورة قراءة تراث ”مالك بن نبي“ الفكري، الذي لم يقرأ إلا على نطاق ضيق محدود».
وأخيرا يمكن القول أنه مهما قلنا لا نستطيع أن نوفي للمفكر ”مالك بن نبي“ «رحمه الله» حقّه، فقد تطرق لشتى المواضيع والقضايا التي تهمُّ الحضارة من جميع الجوانب والنواحي، وأوصى بالعناية والتنبه إلى مشكلات الحضارة.