«التكاذب» ومتعة الذئب في العظام
في حديث قديم مع أحد الأصدقاء المقربين عن «التكاذب» وهو حالة يمارسها الإنسان على نفسه، حيثما يحاول التغيير في مجرى الأمور المحيطة به، وقد تكون تلك حسنة أمام المتغير الإنساني للإبداع فيمارس التكاذب في كافة أنواع متع الحياة التي لا يستطيع الوصول إليها، فيوهم نفسه بأنه في دار عرض سينمائية بينما كان يضع «ستارة بيضاء»، ويترك آلة «البروجكتر»، تبث فيلماً طويلاً يصدر صوتاً متقطعاً طوال العرض.. وكان هذا يحدث في ثمانينيات القرن الماضي حينما كنا صغاراً فنشعر بأننا حضرنا فيلماً سينمائياً طويلاً.
هذا ما نطلق عليه التكاذب الذي يرتبط بالأمل والمستقبل الذي ينتظره صبي صغير يذهب ليلعب الكرة في ملعب «الحارة»، وتتمزق رجله من زجاج كان ملقى في الملعب.
اليوم ونحن في عصر التقنية نأتي إلى عصر «تكاذب» مختلف بأن يوهمك وزيرٌ بأن الإسكان قاب قوسين أو أدنى بينما وزارته ترد الطلبات تلو الأخرى بحجج واهية بأنك لا تستحق السكن، ولا تنطبق عليك الشروط، ومن انطبقت عليهم الشروط قد أصبحوا في حالة من الحيرة، متى سيتسلمون تلك المباني الجاهزة التي بنتها الشركات الصينية، وبقي علينا فقط أن نفكر في الصيانة السنوية.. وتغيير الأثاث الذي كلما «تكاذبنا» على أنفسنا وجدناه مبعثراً في الصحراء.
أما تكاذب الأجيال الجديدة فهم يعتقدون أنهم يقولون الحقيقة وأنهم يمارسون كافة أنواع الحرية التي منحتها لهم سلطة الأب ولكن بطريقة واهمة، فيعتقدون أن كل ما يقولون هو نهاية الصدق وأنك إذا شككت فيما يقولون فهذا يعني أنك لا تثق بهم، ومن الحكمة جداً أن تلم بخيوط اللعبة، وتعرف كل شيء ولا تتحدث، أي تجد أن صديقاً لك يحاول إخبارك بمغامراته في الصحراء والسفر وأنت تعلم بأنه لم ير الصحراء ولم يستطع السفر بسبب تعثر حركة الطيران وعدم توفر السيولة في جيبه، ولكنه يمارس عليك ممارسة «التذاكي» وأنت تعرف أنه طيلة الفترات الماضية يمارس غواية الكذب، ولكنك «تمشيها» لأنك لا تريد أن تفقده.
ولكن هل يعلم هؤلاء أن ل «التكاذب» وقتاً ويصبح كارثة فتنقلب تلك الطاولة ولن يعود في حدودك الصمت وأنت العارف بخفايا الأمور، ولكنهم يصرون على ممارسة «التكاذب»، وهذا في الانعكاس النفسي هم يمارسونه على أنفسهم كي لا يكتشفوا أنهم أضاعوا عمراً طويلاً وتم بعثرته في جيوب الآخرين دون أن يمنحوا أنفسهم فرصة الوقوف ولو للحظة مع الصدق.
فقط ما نقوله بأن لعبة «التكاذب» لذيذة في بدايتها، فالشخص المقابل سيعرف ذات يوم أن هذا التمادي ما هو إلا حالة مَرضية، وأنه إذا صمت سيكون لصمته وقت وينتهي، وحينها ستكون هناك حالة من جبل البركان، لا نستطيع إخماده، بدءاً من حكاية الوزير الذي يعدنا بالسكن، وانتهاءً بالصديق الذي يحكي قصص وروايات السفر وهو لم يصل عتبة المطار بعد.
لذا علينا العودة إلى أنفسنا والوقوف معها بصراحة قبل أن نقف مع «الآخر» الذي وضع حداً بيده مثل الجدار العازل بينك وبينه، وحينها سنعود لحكاية «جاكم الذيب»، ولكن أهل القرية لن ينظروا للراعي، حتى يلتهمه الذئب وهم يضحكون عليه، لقد كذبت علينا بما فيه الكفاية أيها الراعي. وها أنت أصبحت في فم الذئب ليستمتع ببقايا العظام.