آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 5:11 م

القديح التي علمتني وأبكتني

عبد الوهاب العريض * صحيفة الشرق

لم أكن أعرف كثيراً عن بلدة القديح قبل عام 1985م غير أنها بلدة محاطة بالنخيل على أطراف مدينة القطيف، وحينما كانت خطوتي الأولى نحو الحياة العملية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، ودخلت إلى المبنى الرئيس فيها «21»، وتم توجيهي للعمل ضمن قسم المحاسبة مع شخصية مازلت أتذكر كل حرفٍ تعلمته منه، وكل نصيحة كان يقولها لي، وكان بيته أول بيت في «القديح» تذهب له عائلتي لتكون معرفتنا ممزوجة بين العمل والعلاقة الشخصية.

عبدالرسول تريك كان أول معلم لي في الحياة العملية، منه تعلمت القوانين المحاسبية، وكيفية التعامل مع الأرقام وإدارة المشاريع، وتعلمت منه أن الإصرار على النجاح لا يتوقف، وبعد فترة بسيطة عرفت أن معظم زملائي في الطابق الخامس - قسم المحاسبة - هم من «القديح» «محمد الناصر، وأبو أمجد أبو الرحى وسلمان الخاطر»، وآخرين ربما لا تحضرني أسماؤهم، كانوا جميعاً يفتتحون صباحهم بجلسة مصغرة في مكتب عبدالرحمن الجلال «الأحسائي» مدير المحاسبة برفقة رئيس قسم المحاسبة المرحوم «سعد العبيد - الوسطى»، وفي الظهيرة يجلس الجميع برفقة مدير عام الشؤون المالية «عبدالرحمن العقيل - الوسطى» على وجبة غداء يأتي بها حسين الخليفة - سيهات، برفقة محمد أبو حليقة - الأحساء، وبحضور الخالدي - عنك، لتكون سفرة واحدة يجتمع فيها كافة أطياف الوطن على وجبة غداء يومية.

هذه المجموعة التي كانت تشكل أسرة المحاسبة حينها في الجامعة، وكانت العلاقة بين الجميع ليست فقط علاقة عمل بقدر ما هي إنسانية وحميمية تعلمت من خلالها أننا لا نعيش في عزلة بل في وطن مصغر بكافة أطيافه، يجمعنا مسجد واحد، وبيت واحد وعلاقة هي الأجمل في نسيجها الاجتماعي.

من خلال هؤلاء الأشخاص تعرفت على بلدة القديح، وأصبحت أتردد على بيوتها وأزور الأصدقاء والزملاء فيها، وهم على علاقة وثيقة بالشعر والثقافة واللغة العربية التي لا يقبلون أي تحريف بها، ولا تخلو بيوتها من مكتبة متنوعة الأطياف، تحتوى على كثير من الكتب التي يتبادلون المعرفة فيها - رغم أوضاعهم المادية البسيطة - وهذا ما كان يقوله ويكرره السيد عدنان العوامي الذي كان رئيساً لبلدية القديح حينها إن أهل القديح شعراء بالفطرة.

تلك القديح التي عرفتها وعرفها جميع من اقترب من أهلها، بيوت علم وثقافة وهدوء لا يشاغبون الآخرين في معطياتهم، نأوا بأنفسهم عن الضجيج وابتعدوا عن فوضى المدن، وظلوا في بلدتهم المحاطة بالنخيل وأشجار الليمون، ونادراً ما يزورها الغرباء، حتى دخلها يوم أمس ما يزيد على ثلاثمائة ألف مواطن يرددون قصيدة الشاعر العراقي كاظم الكربلائي ليزفوا أطفالاً وشباباً وكهولاً في لحظاتهم الأخيرة:

«يمة ذكريني من تمر زفة شباب.. من العرس محروم وحنتي دم المصاب/ شمعة شبابي من يطفوها.. حنتي دمي والكفن دار التراب/ يمة ذكريني يمة ذكريني من تمر زفة شباب/ من ثدي النيبا راضع بصافي الحليب.. وبهالشهادة صار إلي قسمة ونصيب/ حوفتي بدمي خلها يفرشوها.. حنتي دمي والكفن ذار التراب».