إرادة الفعل
تجمعني مع أصدقائي من أهل الصنف مجالس كثيرة، وألتقي مع مثقفين متمكنين في أوقات متفرقة، وأقرأ الكثير مما يكتب في الصحافة ومواقع النت.
أفكار نيرة وأطروحات يعجبك الاستماع إليها، العديد من التحاليل والتصورات والآراء في مختلف القضايا والمجالات، سياسية واجتماعية وفكرية وغيرها، بعضها ناضج وبعضها على طريق النضوج، بعضها مكتمل وبعضها يحتاج لتطعيم وتقليم بسيطين، بعضها صحيح والبعض الآخر له نسبة من الصحة.
كم هائل من المشاريع الراقية في أذهانهم، وأفكار بديعة وراقية، لكنني أودعهم والتقي معهم بعد أيام وأشهر وسنوات لتبقى المشاريع هي المشاريع والأوجاع الاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها كما هي.
كنت أسمع أن التنظير والتخطيط صعب، وأن العمل الميداني أسهل بكثير من إعمال الذهن ومن عملية التفكيك والتركيب بين المعاني والمفردات والأفكار، لكنني أستطيع القول ان الحال قد تغير، فنحن اليوم في عالم يفيض بالتصورات والرؤى المتقدمة لكنه متوقف فعلا عن العمل والنشاط باتجاه تلك الخطط والمشاريع.
أغلب المشاريع والتصورات التي تعرض في الجلسات والمنتديات والديوانيات هي أحلام اليقظة، وأمنيات الضعفاء، لأنها اجترار وتكرار يعاد تصنيعه وتغليفه لأطروحات ومشاريع قديمة، ربما نسيها حتى من عرضها أول مرة. في مجتمعنا حين يتحدث أحد عن بعض أحلامه أنه يريد إنشاء تجمع يعتني بشأن ما، أو مجلس ينظم قضية ما، أو جماعة تتبنى أمرا ما، فإن أجهزتنا الرسمية تنزعج، ومختلف التوجهات والجماعات في الساحة تتحسس وتتوجس من هذا الفكر والتنظير الكاسح، لكن الأيام ترشدنا أن نهدأ، فأغلب ما قيل في سنوات مضت لم يخرج من إطار القول المأثور، والذي تُحفظ حقوق الطبع والاستنساخ لصاحبه، ويبدو لي أن أغلب ما سيقال لا يعدو محاولة للتواصل مع عواطف الناس الطيبة والبسيطة.
يقول أحدهم ويمكنك القياس على هذا، أنا أفكر في إنشاء تجمع للتجار، الكبار منهم والصغار، وسأبدأ التنسيق معهم لحلحلة قضايا البطالة وضعف الحركة في الأسواق، والتوسعة على الأسر المحتاجة، وبناء المصانع وفتح المعامل، واستيعاب الكفاءات وتدريب الشباب، وعلى عجل يدرج تحت كل نقطة من هذه النقاط عدة مقترحات منمقة وجميلة. وتمر الأيام والكل ينتظر، فينسى المجتمع ما قيل، وتبقى نخباً قليلة مهتمة تتساءل: أين المشروع وأين أفكاره وأين ولادته؟ والجواب أن ولادته تحتاج إلى انتظار طويل، أما بالنسبة للمشروع وأفكاره ونظرياته فلن تتحرك الأيام طويلا حتى تطرق سمعك بثوب جديد ولون مختلف وستسمعها من فم آخر.
إرادة الفعل والعمل والعطاء مفقودة في أغلب الأحيان، وبعض الشطار يحلون مكانها كلمات فضفاضة، وجملا خيالية، ومشاريع كسيحة، لأن الفعل لا يدعمها، والعطاء لا يسندها، والعمل لا يجاريها، فتقبر مكانها كمشاريع وتتحرك في الفضاء الافتراضي - النت - باعتبارها نصرا مؤزرا.
هذا هو الواقع وللأسف الشديد، كل شيء فيه حاضر على صعيد النظرية والرؤية والتخطيط والثرثرة، لكن الغائب الوحيد هو الفعل والعمل، لذلك يبقى عالمنا العربي والإسلامي وتبقى مجتمعاتنا متخلفة وضائعة وممقوتة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ «الصف: 2 - 3» لأن بين أقوالها وأفعالها هو ما بين السماء والأرض، وإن صفقت وفرحت وانتعشت بالأقوال والكلمات الرنانة، فقيمتها ما تنجز منها لا ما تصفر وتصفق له منها.