تفكك الزمن الأسلوبي وبنية الذاكرة الشعرية
قراءة أسلوبية بلاغية تأويلية في نص «في ذكرى مشمشة - في ذاكرة مشمشة» د. وحيده حسين في ضوء التصور الزمني عند أدونيس
يمثل الزمن أحد أكثر البنى إشكالية في الخطاب الشعري الحديث، إذ لم يعد يُستثمر بوصفه تعاقبًا كرونولوجيًا للأحداث، بل بوصفه بنية دلالية تتشكل داخل اللغة. وفي هذا السياق، يندرج نص «في ذكرى مشمشة - في ذاكرة مشمشة» ضمن ما يمكن تسميته بـ الزمن الأسلوبي المفكك، حيث تُلغى الخطية الزمنية لصالح شبكة من اللحظات المتداخلة التي تُستدعى عبر الصورة والضمير والرمز.
ويتقاطع هذا المنظور مع ما يؤسسه أدونيس في تنظيره للشعر الحديث، حين يميز بين الزمن التاريخي بوصفه زمنًا خارجيًا، والزمن الشعري بوصفه زمنًا داخليًا، ذاتيًا، ينشأ داخل النص لا خارجه. فالقصيدة، وفق أدونيس، «لا تتحرك في الزمن، بل تُعيد خلقه».
يشكّل العنوان:
«في ذكرى مشمشة - في ذاكرة مشمشة»
عتبة دلالية تؤسس منذ البداية لتفكيك الزمن. فالتكرار مع الاختلاف بين «ذكرى» و«ذاكرة» لا يحيل إلى زمنين متتابعين، بل إلى حقلين زمنيين متداخلين:
• الذكرى بوصفها أثرًا
• الذاكرة بوصفها حاضنة مستمرة للأثر
والحرف «في» في الموضعين يلغي الإحالة الزمنية الخارجية، ليحوّل الزمن إلى حيز داخلي، يُسكن فيه الحدث ولا يُروى.
هذا الإجراء يذكّر بتقنية أدونيس في تحويل الزمن إلى فضاء، كما في قوله إن الشعر «مكان للزمن، لا ممرًا له».
يعتمد النص على بنية ضميرية متحركة، تبدأ بنفي الذات:
«لم أظنني في شغاف الحنو»
الزمن هنا ليس ماضيًا مغلقًا، بل ماضٍ يُعاد فحصه من موقع وعي لاحق. ويتنقل الضمير بين حالات متعددة:
• ذات الطفولة «الأم»
• ذات المراقبة «مشاهدة على مسرح»
• ذات الإدراك المتأخر «خدشت فرصة ضائعة»
وهذا التعدد لا يُنظم وفق تعاقب زمني، بل وفق منطق الذاكرة المتشظية، حيث تتراكب اللحظات بدل أن تتوالى. وهو ما ينسجم مع طرح أدونيس حول «تفجير الأنا» بوصفه شرطًا لتحديث الزمن الشعري.
يُستعاض في النص عن الفعل الزمني بالصورة الثابتة:
• «رفوف الأيام اكتفت بي مشاهدة»
• «وكان الخيط معلقًا في رقبة صدفة»
فالأيام لا تمضي، بل تُرصّ، والخيط لا يقود، بل يُعلّق. وهكذا يتحول الزمن من حركة إلى تعليق دلالي. وتؤدي الصورة وظيفة زمنية، لا جمالية فحسب، إذ تُجمّد اللحظة وتمنع انقضاءها.
هذا التصور يوازي ما يطرحه أدونيس حين يرى أن الصورة الحديثة «لا تصف الزمن، بل توقفه عند حدّ الرؤية».
يمزج النص بين شخصيات وتجليات زمنية متباعدة:
• الأم / الصديقة / الأب
• سلمان الفارسي
• الحوت / النحل / النجمة
دون أي إشارات انتقالية. هذا التراكب لا يخضع للتاريخ، بل لما يمكن تسميته بـ الزمن الرمزي، حيث تفقد الشخصيات مرجعيتها الواقعية وتتحول إلى علامات زمنية.
«في يوم مخضرم»
يُحمَّل اليوم صفات بشرية وتاريخية متراكبة، فيصبح وحدة زمنية هجينة، وهو إجراء دأب عليه أدونيس حين يدمج الأزمنة الحضارية داخل لحظة شعرية واحدة.
تُعد صورة الساعة ذروة التفكك الزمني في النص:
• «في ضمير ساعة تبقت متعمدة»
• «سيفًا مغمض العقارب»
فالساعة تُنزَع عنها وظيفتها القياسية، وتُمنح وعيًا وضميرًا، ثم تُعمى عقاربها، في إشارة إلى إلغاء الزمن الموضوعي. وسقوطها في «ذمة حوت» يحيل إلى زمن أسطوري مغلق، زمن الانتظار والاختبار الداخلي.
وهذا يلتقي مع موقف أدونيس النقدي من «زمن الساعة» بوصفه زمنًا قمعيًا، في مقابل زمن الشعر بوصفه تحررًا من القياس.
في خاتمة النص:
«لأنه تجرأ على المشي
قبل عطر مشمشة»
تتحول «مشمشة» إلى مرجع زمني غير قابل للقياس. فالعطر، بوصفه ذاكرة حسية، يسبق الزمن العقلي ويضبط إيقاعه. ومن يتجاوزه يُدان. وهنا يبلغ النص أقصى درجات ذاتنة الزمن، حيث يصبح الشعور معيارًا للتوقيت.
يكشف نص «في ذكرى مشمشة - في ذاكرة مشمشة» عن بنية زمنية تقوم على:
• إلغاء الخطية الزمنية
• إحلال الصورة محل التعاقب
• تشظية الضمير
• تذويب التاريخ في الرمز
• إسقاط سلطة الساعة لصالح الذاكرة الحسية
وهو بذلك يندرج ضمن أفق الشعر العربي الحديث الذي نظّر له أدونيس، دون أن يكون تابعًا له، بل محاورًا لرؤيته، إذ يؤسس زمنه الخاص داخل اللغة، لا خارجها.
فالزمن في هذا النص لا يُقاس، ولا يُروى، بل يُستعاد بوصفه أثرًا شعوريًا مقيمًا.













