حياة الظاهر..!
كل ظاهر متفاوت في ظهوره، غامض في تجليه، تراه كل نفس بما فيها، ويقبل عليه كل قلب بمقدار أحماله، وتنال منه كل روح بمقدار حاجتها، فأنت أجمل في عين من أحبك، وقبيح في عين من أبغضك، وأنت، أنت..! ظهورك واحد، وظاهرك لم يتعدد، ولكنه متفاوت في إدراك من يحسه وينظر إليه. يخبرنا كل ظاهر أن الحكم عليه من قلب الناظر إليه، لا من عينه المبصرة. وإنه متفاوت في الذات نفسها؛ فالعين في توثبها وإقبالها وشغفها، ليست كعين الكهلة الزاهدة والمتعبة، أو الممتلئة بكل شيء، والمعرضة عن كل شيء، والعاجزة عن كل شيء. لذا، كل ظاهر متفاوت.
وكل ظاهر بحاجة إلى من يحسه، ويدرك شهوده، ويستوعبه ويدرك دلالاته؛ لكل ظهور هوية، ولكل ظهور معنى. أرأيت كيف أدرك موسى وهجة الهدى خلف ارتعاشة النار وخمودها؟ كانت ظاهرة لكل عين، ولكن لم تحمل قلوبهم قلبًا كقلب موسى في الإدراك، والملمح، والقبض على توهج الإشارة، والإسراع قبل الانطفاء..!.
كل ظاهر يستوعبه الناظر بمقدار وعيه، ويتسع له بمقدار سعته..!. في سورة فصلت يقول الله تعالى:
﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53].
الرؤية تقع على ظاهر تقبض عليه الحواس بأدواتها، أو رؤية باطن تنطوي عليه النفس..! ولكنه ظاهر للقلب يراه، ويبصره، ويستوعب معناه، ويكشف عن حقيقته؛ لأن الله يقول لنا إن هذه الرؤية في ظاهرها وباطنها هي سبيلًا موصلًا إليه، أو للوعي الموصل إليه..!. «حتى يتبين لهم أنه الحق». وإن الله شاهد وشهيد على قلوبنا فيما تبصر، وفيما ترى، وبما يستقر في شغافها من وعي وحضور.
فكل صفاتنا، كل أفعالنا، كل نوايانا، وخبيئة نفوسنا، أسرارنا التي نستأمن قلوبنا عليها، وما هو أشد استتارًا منها، مشاهدة وهي ظهور لعالم الغيب الحاضر والشهيد.
الحياة في الظهور في حياة الناس قد يقبل نقيضه، وقد يشهد الظاهر زورًا في الإخبار عن حقيقته؛ قد يرتدي قطاع الطريق عمامة الأولياء، وقد تحمل وجوه القتلة براءة الأطفال، فليس كل ظاهر يمثل حقيقته الموضوعية، ربما كانت صناعة من نقيضها؛ الفجور تصنع لنفسها عفة ظاهرة، والخيانة تنسج لنفسها من خيوط الأمانة ما يخفيها.
ولكن مع الله، هو ظهور تام مطلق لا غيب فيه، ولا حجاب عليه، ولا لحظة اختباء واحدة، ولا فرصة واحدة للهروب من حقيقتك، ولن تتاح لك فرصة لتزييفها، أو جعلها أفضل مما هي عليه، أو منحها أكثر مما تستحق من الفضيلة.
﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ﴾ [الطارق: 9-10].
لحظة الانكشاف لن تكون لك قوة تسترك، وليس لك ناصر ينصرك للتغلب على خزيها.
وحياة الظاهر الكاذب تأتي دائمًا من نفس لا ترى قيمة لذاتها، لا ترى فيها فضيلة تظهرها، ولا معنى تبديه، ولا جمالًا تمكن الناس من رؤيته.
حامل الظهور الكاذب إنسان تيقن بانعدام قيمته، فبذل كل جهده وماله ليقتني ما يصرف إليها عنه؛ سعي لا يتوقف عن ستر إعاقة لا يمكن سترها في تقديره، وكلما تعاظمت تفاهة ذاته، تعاظم الظهور الكاذب والمزيف منه.
في نهاية المطاف..
كلنا في شهود، وكل سرائرنا ظاهرة، ومع كل ظاهر منا ينكشف مكنونه أمام الباطن والظاهر الذي يعلم السر وأخفى، وإن الشهود تام، والتجلي كامل، والانكشاف مكتمل.
تجمل لله بجمال باطنك..
ولا تتجمل للناس بما ليس فيك.
يجملك الله في عيون خلقه جميعًا، لأن الرؤية بالقلب، ومقلِّب القلوب هو الله وحده.













