أبغض الحلال
الحياة سنّة كونية وشريعة ربانية، فطرة بشرية لحفظ النسل والإعفاف، إنه الزواج، الذي تستقر فيه روحان إحداهما بالأخرى وتعيشان في حب وتوادد، تتآلف فيه القلوب وتتكون العلاقات الطيبة والقرابة والنسب، قال تعالى:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
وإن أهم ركيزة لنجاح الزواج هي الاحترام والتقدير والعدل، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21].
وهنا يصف القرآن الكريم الزواج بأنه ميثاق عظيم ومسؤولية جسيمة وعهد مقدس، يجب الالتزام به والوفاء بشروطه، مما يعكس ويؤكد على مدى الأهمية في بناء الأسرة والمجتمع؛ فالزواج إعمارٌ للأرض، يحفظ الدين ويصون المؤمنين ويقرب العبد من رب العالمين.
للأسف الشديد تزداد المآسي الاجتماعية والإنسانية، يومًا بعد يوم - لا سمح الله - حتى كادت أن تكون ظاهرة تتفطر لها القلوب؛ ففي مجتمعاتنا ضحايا نتألم لحالهم ونبكي على أوضاعهم، أطفال بعمر الزهور ورُضّع لم تتجاوز أعمارهم الأيام أو الشهور، لهم إحساس واسع، ولهم أعين تراقب كل الوجوه حولهم وتبحث عن قلبين كانا يسمَّيان الوالدين؛ قلبان أُصيبت ضمائرهما بين عشية وضحاها بالخمول أو الموت. هؤلاء الأبناء المساكين، القُصّر والمرضى وذوو الاحتياجات الخاصة، يعيشون انكسارًا مؤلمًا، ويسألون أنفسهم ليل نهار:
أين والدانا؟ أين من كنا نراهم قلوبًا حانية؟ أين أحضاننا الأولى؟ أين من بعد الله كانوا سندنا وملاذنا؟
كيف غدت أمّنا في جانب وأبونا في جانب آخر؟
ألسنا نحن من طُبعت محبتنا في قلوبهم، ووُسمت «الضنى» على جباههم؟ ألسنا نحن فلذات أكبادهم؟
كيف تستقر القلوب من دوننا؟ وما ذنبنا نحن في دنيا طغت فيها المصالح، وتكاثرت الأطماع، وتسابقت فيها الذئاب المفترسة؟ كيف نسعد ونشق طريق النجاح ونحن مفصولون عن «أب وأم» هما أساس وجودنا وقيمتنا واحترامنا بين الناس؟
هؤلاء الأبناء، منهم من يفقد ثقته بنفسه وبمن حوله، ومنهم من يأخذه الصمت والبكاء والحسرة، ومنهم - وهو الأخطر - من يختطفه الخوف من المستقبل، والرهبة القاتلة من كلام الناس. ويزداد الأمر تعقيدًا حين يتحول الخلاف إلى انفصال دائم بين الوالدين بلا تحكيم للعقل ولا للضمير، حينها تتفشى الكوارث، وتضيع الإنسانية، وتُنتَهك حقوق هؤلاء الأطفال الذين تساوم عليهم الضمائر الفاسدة.
فالانفصال المرّ وهو الطلاق الذي يُعد أبغض الحلال عند الله أصبح في مجتمعنا الصغير، للأسف الشديد، مشكلة مؤلمة ومعقّدة، لها جوانب غير محببة أخلاقيًا، وقد تصل في بعض الحالات - وإن كان ذلك ليس تعميمًا - إلى أبعاد غير آمنة إنسانيًا واجتماعيًا ونفسيًا، بل وقد تمس الجانب التربوي والسلوكي والأمني لا قدّر الله.
الطلاق، وهو انفصال الوالدين في مجتمع مؤمن ومسالم، يؤذي الجميع، أطفالًا وكبارًا وشيوخًا، ويدفع الأسرة كلها إلى بيئة غير مستقرة، تفرز مرحلة صعبة تتراكم فيها الجراح، وقد يبتعد الأقارب عن الزوجين المنفصلين، ويتربص البعض بهم، ويتصيد المتطفلون في الماء العكر، ويزيد القيل والقال، ويثقل الشعور بالذنب على الطرفين، فتتشتت الروابط، وتظهر العزلة، ويزداد الألم النفسي والاكتئاب، فيفقد الزوجان ومعهما الأهل والأبناء لذة الأنس والمرح والمتعة.
ولنضع النقاط على الحروف:
هناك طفلة تصرخ: «أعيدوا لي أبي»، وهناك طفل يبكي: «أريد أمي»، كالرعد الجاف، خوف ورهبة في آن واحد، ويحيط بهم أُناس يتهامسون ساخرين، وأناس يبكون بصمت لحالهم، وفي وسط ذلك ملامح جامدة قلوبها كالحجر، أو أشبه بدرع فولاذي لا يخترقه شيء ولا تقبل أي توسل ولا نقاش، أذناها مقفلة، لا تسمح للنداءات العاطفية لطفل أو طفلة. طفلة صغيرة وهي تمسك بيد جدتها الكبيرة في السن والمثقلة بالآلام والجراحات، تلك المجروحة المسكينة تمسك بقوة محاولة أن تُثبّت شيئًا من الطمأنينة، يداها ترتجفان باكيتين بحرارة، تصرخ وتتوسل إلى الله عز وجل، تنادي تجاه الآخر: «أرجوكم، لا تأخذوا مني أبي».
لقد كُتب الكثير عن هذا الموضوع في صحفنا الوطنية ومواقع التواصل، وكلها دعوات من قلوب عطوفة لوقف هذا النزيف الإنساني. إننا محتسبون الأجر من الله، إذ نناشد اجتماعيًا وإنسانيًا أن نطرح هذا الأمر علميًا وأدبيًا على طاولة النقاش، بعيدًا عن اللوم والاتهام، فمجتمعنا الطيب يتعرض لتفكك وتباغض وشحناء، وهناك من يخطط لإشغاله بهموم تبعده عن بناء مستقبل مستقر لنفسه ولأسرته. ومن هنا كان لزامًا علينا دينيًا واجتماعيًا البحث عن الأسباب ومحاولة إيجاد حلول تخفف أو تحد من هذا الوباء القاتل، وباء يُقال عنه «كورونا العصر»: الطلاق.
وإننا على ثقة تامة بأن مجتمعنا يستحق كل الحرص والعناية والاهتمام، وقادر بإذن الله على إصلاح نفسه بنفسه وتغيير أحواله إلى الأفضل، مصداقًا لقوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
فهناك عوائل كريمة يظلّ بالها منشغلًا ببناتها وأبنائها وأحفادها، راجيةً أن تعود المياه إلى مجاريها الطبيعية، وأن يحلّ الاستقرار والوئام والودّ والطمأنينة في بيوتها، لتسكن قلوب فلذات أكبادها بالرضا والراحة.
عوائل تتمنى أن تبقى الأبواب مفتوحة، وموائد الطعام عامرة، وصالات الفرح في البيوت مشرعة، لتكتمل السعادة، وتستقبل الأعياد، وتوزع الهدايا، هدايا الأعياد والمناسبات الجميلة، وترتاح الأنفس بلقاء الجد والجدة، والعم والعمة، والخال والخالة، وكل الأحباب.
إن غياب الحوار الهادئ بين الزوجين، وغياب الوعي في إدارة الخلافات، وغياب العقل عند احتدام الصراع، كلها أسباب تسهم في توسع الهوة. وتزداد المشكلة عندما يتدخل غير المختصين بالشأن الاجتماعي والنفسي، دون مراعاة لظروف الطرفين وما يمران به من توتر وعدم استقرار؛ فتتعقد الأمور، ويضيع الأمل في الحلول، ويتحول سوء الفهم البسيط إلى خصام كبير وانفصال غير مسؤول، وقد يلجأ أحد الزوجين أو كلاهما إلى محامين لا ينظرون للقضية إلا من زاوية مادية، دون إعطاء الخلاف الوقت الكافي للحوار، فينتهي الأمر بالطلاق المنبوذ، وهو المرض الذي نحاول جميعًا مواجهته والحدّ من انتشاره حتى لا يتحول إلى وباء فتّاك يترك آثارًا لا تُنسى.
وها نحن، كل يوم وكل ساعة، نتجرع مرارة فراق كل زوجين في مجتمعنا المحب. ومع ذلك، يبقى الأمل قائمًا دون فرض أو وصاية في ترميم ما كُسر، وتحكيم الضمير والعقل قبل فوات الأوان. إننا ندعو إلى إعادة بناء الجسور بين الزوجين بالمعروف والعدل والإنصاف؛ باللطف والعطف والصبر واللين؛ بالكلمة الطيبة والتسامح؛ ووفق ما سنّه الشرع الكريم، وما توجّه إليه الأنظمة والقوانين - حفظها الله - وما تدعو إليه خطب علمائنا الأفاضل من لمّ الشمل وإصلاح ذات البين، وتعزيز قيم المحبة والخير بين أفراد المجتمع.
لمجتمع راقٍ، في وطن الخير، ينعم بالازدهار والبناء والسعادة والهناء.
وعلى أمل بإذن الله ثم بجهود الجميع، في المادة القادمة، وبالتنسيق مع الجهات المتخصصة، سنضع نقاطًا لبعض الحلول. وللعلم، لنا مواضيع ذات صلة تُنشَر على المواقع الإلكترونية بأسماء يمكن للقارئ الكريم الرجوع إليها مع الشكر والتقدير.
قال الله تعالى:
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
وقوله تعالى:
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 110].













