آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 3:54 م

فوضانا الداخلية

ياسين آل خليل

ثمة مناطق داخلية فينا نمرّ بها مرورًا خاطفًا، كما لو أننا نخشى الجلوس فيها. نُجيد ترتيب ما يراه الناس، ونُتقن إدارة التفاصيل اليومية، لكننا نتردد عند مواجهة ذواتنا. نخاف مما قد نجده.. مشاعر لم تُقل وجراح لم تُعالج. لذلك نُؤجّل المواجهة، ونقنع أنفسنا أن الخارج أولى بالاهتمام، بينما الحقيقة أن الخارج ليس سوى انعكاس غير دقيق لما يعتمر في الداخل.

نعتني بمظهرنا، بترتيب منازلنا، بكلماتنا، بسلوكياتنا العامة، لكن نهمل جزءًا كبيرًا من الداخل خوفًا من أن ننكشف ونتعرى. بعملنا هذا نحن نصنع لأنفسنا ”درعًا“ اجتماعيًا لئلا يقترب أحد من هشاشتنا. يصبح المظهر غطاءً أنيقًا نخفي تحته ما لا نعرف كيف نرتّبه. ومع الوقت، نصدق ذلك الوهم بأن التغيير الخارجي الذي ابتدعناه، قادر على إسكات ضجيجنا الداخلي.

هناك فوضى لا تظهر في الصور ولا تُرى في الوجوه. فوضى صامتة.. قلب امتلأ بما لم يُعبّر عنه. عقل أتعبه التفكير الزائد. روح تبحث عن معنى اختفى وسط الركض اليومي. هذه الحالة الذهنية من الفوضى لا يلاحظها أحد، لكنها تستنزفنا أكثر من أي عمل مرهق. وما يثير الدهشة أن الإنسان قادر على إتقان دوره في الحياة لسنوات، ودون سابق إنذار ينهار ذلك الكيان بين ليلة وضحاها..!

يا ترى لماذا نخشى مواجهة أنفسنا..؟ أهو الخوف من الألم، أو أنه التغيير الذي قد ينتج عنه مواجهة الذات والذي يفتح أبوابًا كنا نحرسها لأعوام عديدة. نعم.. هي الخشية من أن نكتشف أننا بحاجة إلى إعادة تعريف أنفسنا، أو إلى التراجع عن قرارات عشنا ندافع عنها ولسنين طويلة، أو إلى التخلي عن أشخاص وعادات شكّلوا جزءًا مهما من حياتنا اليومية. لذلك نُفضّل إدارة العالم الخارجي، لأنه أسهل، ويمكن السيطرة عليه، بينما يظل الداخل مساحة غير مروّضة.

الفوضى الداخلية لا تختفي. إنها تتكاثر. تتحول من مشاعر مبعثرة إلى سلوكيات مربكة، ومن إرهاق عابر إلى استنزاف دائم. هكذا.. نتحول إلى كائنات بشرية سريعَة الغضب، ناقصة الصبر، مترددين، خائفين بلا سبب واضح. نفقد حماسنا، قدرتنا على الحب، وحتى الاستمتاع بأبسط التفاصيل. وعندما نتساءل.. ”ما الذي يحدث لنا..؟“ نتجاهل وكأن الأمر لا يعنينا ولو أننا ندرك أن الجواب يكمن في داخلنا.

الفوضى الداخلية علامة على أن هناك شيئًا يطلب منا الالتفات إليه، شيئًا يستحق أن نمنحه وقتًا واعترافًا. والعجيب أن أول خطوة لترتيب الداخل ليست معقدة كما نظن. فالخطوة الأولى ليست كتابة قائمة أهداف، ولا قراءة كتاب، ولا حضور دورة. إنها أبسط وأعمق من ذلك.. أن نجلس مع أنفسنا بصدق. أن نتوقف عن الهروب. أن نسمح للداخل بأن يتكلم. عندها تبدأ عملية التغيير..!

حين نعيد ترتيب الداخل، فإننا لا نحتاج إلى تغيير الكثير في الخارج. عندها تبدوا الأشياء أكثر وضوحا، وأكثر صدقًا. العلاقات هي الأخرى تصبح أكثر نقاءً..! قراراتنا تأخذ طابعها الصحيح والقريب إلى الحكمة والموضوعية، منها إلى العبثية. من هنا نبدأ في استعادة قدرتنا على رؤية الحياة كما ينبغي، دون مبالغة أو خوف. والأهم.. شعورنا بأننا قد عدنا إلى أنفسنا بعد غياب طويل.