آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 10:34 ص

صاحب الفضيلة الذي أضاع فضيلته

هاشم الصاخن *

في كل مجتمع صورة جاهزة تُرسم للرجل الصالح: لحية أطالها، وعبادة حافظ عليها، ومواظبة على الجماعة والعمرة والحج والزيارات، وحديث لا يخرج عن الحلال والحرام وأحكام الشريعة. من بعيد يبدو مثالًا للتقوى لا يُشبهه أحد، ورجلًا تقيًا زاهدًا اكتملت فضائله في أعين الناس. لكن الاقتراب يكشف شيئًا آخر.

عبوسٌ لا يفارق وجهه، وسلامٌ قلَّ أن يُسمع منه، ونظرة لا ترى من حولها.

لا يصاحب أحدًا بداعي الحذر، ولا يستمع لغيره وكأنَّ بينه وبين الناس درجات عند الله، درجات لا يملكها إلَّا هو. فالفضيلة التي تُرى من بعيد لا تشبه الفضيلة التي تُختبر عن قرب، ولا تشبه ما يظهر عند الدُّخول في عقلية صاحبها وعمق قلبه.

فالتعامل البشري لا يكون ظاهريًا ولا قشريًا، بل معنويًا وعميقًا، مبنيًا على قيمة حقيقية لا تشوبها الشوائب ولا تخدعها المظاهر. فالأخلاق لا تُقاس بارتفاع الصوت بالدعاء، ولا بتصدُّر الصفوف، ولا بالمشية الثقيلة التي يُظنّ أنَّها وقار. إنَّما تُقاس بقدرة الإنسان على احتواء من حوله، بالرَّحمة التي تنعكس في ملامحه، وبالتواضع الذي يخفَّف على الناس لا الذي يُثقلهم.

فكم من رجل ظنَّ أنه يُقرِّب الناس إلى الله ”تعالى“، وهو في الحقيقة يبعدهم عنه بأسلوبه الجاف ونبرته المتعالية. وكم من صاحب ”فضيلة“ ظنّ أن العبوس علامة زهد، وأن الانزواء دليل تقوى، وهو لا يدري أن قلوب الناس لا تُفتح بالقسوة، ولا تُقاد بالوجوه المقفهرَّة. فالإنسان لا يحتاج إلى من يعظه قبل أن يتفاعل معه، ولا إلى من يطلق الأحكام قبل أن يستمع؛ بل يحتاج إلى من يشعره بإنسانيته أوَّلًا قبل أي شيء آخر.

والمشكلة أنَّ هذا النموذج من الناس لا يدرك أنَّ الفضيلة الحقيقيَّة تُعرف عند أول احتكاك، وعند أوَّل موقف يحتاج فيه الآخرون إلى كلمة طيبة أو صدر واسع أو رأي متزن. فهناك من يتفنَّن في العبادات الظاهرة؛ لكنه يعجز عن أبسط خلق: أن يُشعر من أمامه بأنَّه مرئي ومسموع ومحترم. وما أكثر ما يختبئ خلف ”التشدد“ أشخاص لا يجيدون فنَّ التعامل، ولا يريدون الاعتراف بأنَّ الفضيلة ليست لباسًا نرتديه؛ بل روحًا تُختبر في كل التفاصيل الصغيرة التي يراها الناس قبل أن يسمعوها.

ومن الأثر السلبي لهذه الظاهرة أنَّ بعض الأفراد الذين لا يمثلون إلَّا أنفسهم يَظهرون للناس وكأنَّهم النموذج العام للمتدينين، فيُظنُّ أن كل ملتزم يتصرف بالطريقة نفسها. صورة مشوّهة يصنعها شخص واحد لا يعرف من الأخلاق الحقيقية إلَّا القليل، فتنتقل صورته للأسف إلى فئة مؤمنة تخاف الله ”سبحانه“ ولا علاقة لها بتصرفاته. ومع الوقت تنتشر نظرة سوداوية اتِّجاه أهل الالتزام، على الرَّغم أنَّ الخطأ فردي لا جماعي.

وقد يقول قائل: الخلل فيمن ظنَّ السوء بالآخرين، لا في المتدينين الذين لا ذنب لهم. والإجابة صحيحة من حيث المبدأ، لكن المشكلة أنَّ النظرة الضيقة لدى البعض، إضافةً إلى سوء تصرف الشخص نفسه، تخلق بيئة خصبة لأصحاب النوايا المريضة ليتعاملوا مع التدين وكأنَّه عبء، ومع الالتزام وكأنَّه جفاء لا رِفق فيه.

وتخيّلوا معي رجلًا أو طالبَ علمٍ أساء التصرف مع عجوزٍ أو طفل، وكان موقفه سيئًا وقاسيًا. كم من الناس سيعمّمون خطأه على جميع أهل الدين؟ وكم يُحمَّل رجالُ الدين والملتزمون ما لا ذنب لهم فيه؟ خطأ واحد يتضخم في عيون الناس حتى يصبح معيارًا يُقاس به الصالح والطالح.

وهكذا يُحمَّل الصالحون وزر من شوه صورتهم، ويُساء للمتواضعين بسبب سلوك متعجرف، ويُهاجَم أهل الأخلاق نتيجة تصرفات من لا يعرف منها شيئًا. وتتضاعف المشكلة حين يصبح هذا النموذج هو الواجهة، فيُحكَم على الجماعة بعيب الفرد، ويُختزل الدين كله في صورة واحدة لا تشبهه أصلًا.

ولذلك من يجد في نفسه ضيق خُلقُ، فليذهب إلى المسجد ليُهذّب طبعه لا ليُثقله، وليغير من عبوس وجهه لا ليزداد تعجرفًا. فالمسجد مكان يُلين القلب، لا يصنع قلوبًا متحجرة.

ومن يشعر أنه يتضايق من الناس، فليجلس معهم ليعرف قيمتهم، لا ليبتعد عنهم ويتوهم أنه أعلى منزلة. فالقرب من الناس تهذيب، والابتعاد عنهم بدعوى الزهد يزيد القسوة لا الإيمان.

ومن يرى أن لسانه يسبق عقله، فليتوقف قليلًا، وليتعلم أن الكلمة الطيبة عبادة، وأن الناس تحب من يشبه أخلاق الدين قبل أن يشبه مظاهر الدين. فالسكينة ليست في المظهر؛ بل في سلام القلب مع من حوله. والفضيلة ليست اسمًا يُقال ولا شكلاً يُرى؛ وإنَّما سلوك ينعكس في التعامل وخلق يلمسه الناس. ومن ذهبت عنه الأخلاق ذهبت عنه الفضيلة، وإن توهَّم أنَّه يمتلكها.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
ياسر بوصالح
[ الاحساء ]: 2 / 12 / 2025م - 9:39 م
حياك الله أستاذ هاشم و بورك قلمك

أما ما تفضلت به في مقالك الكريم ، فثمة صورة يبالغ فيها مجتمعنا في النظر الى الرجل الصالح وكأنه يريده صورة طبق الأصل من الامام السجاد أو الكاظم أو بقية الأئمة عليهم السلام ، والحال أن ذلك امر صعب مستصعب

لذلك الصورة الصحيحة أن يكون خلقه انطلاقا من الخطوط التي رسمتها خطبة الامام علي عليه السلام ( المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شئ صدرا، وأذل شئ نفسا، يكره الرفعة ويشنأ السمعة، طويل غمه، بعيد همه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور صبور، مغمور بفكرته: ضنين بخلته، سهل الخليقة، لين العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذل من العبد)
سيهات