آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 10:34 ص

كان رجلًا طيبًا بيننا ثم رحل

سراج علي أبو السعود *

أظن أنني وصلت إلى مرحلة يصح لي تسميتها بمرحلة: «ما ليّي زاغر». هي مرحلة لا يعني فيها الإنسان الدخول في جدليات لا تنتهي لإثبات رأي، ولا ملاحقة تفاصيل جريمة أو بركان في هذا العالم ولا غير ذلك. ليس لأن ذلك غير مهم، ولا لأن فظائع الدنيا لا تستحق التعاطف، بل لأن تلك المشاكل أثقل من أن يستطيع عقلي وقلبي تحملها بشكل مستمر. أصبحت باحثًا عن دقائق قليلة من الصفاء الذهني؛ عن شيء من الراحة والهدوء والسكينة التي أفتقدها كثيرًا في هذا الزمن. ومن باب التجربة لا التنظير، أنصح قارئي العزيز أن يتحلّى بصفة «ما ليّي زاغر». فالقلق النفسي والضغط اليومي جزء كبير منهما يأتي من الإفراط في تتبّع كل ما يجري في هذا العالم من مشاكل وحروب لا تهدأ. نرى في مجالسنا من يتحدث عن الحروب وكأنه جنرال جيش، ومن يفصّل في الأوبئة وكأنه عضو في منظمة الصحة العالمية. وهكذا ينهك الإنسان نفسه حين يبذل وقته وجهده في متابعة ما لا طاقة له بتغييره، فيذيب قلبه بيده ويملأ روحه بالمتاعب.

الاضطرار بالاختيار لا ينافي الاختيار. هذه جملة أحب أن أذكّر بها نفسي دائمًا: الإنسان حين يعرّض نفسه بإرادته لما ينهك جسده ويثقل قلبه ثم يمرض، فهو - شاء أم أبى - قد شارك في إيذاء نفسه. جسدي وقلبي ليسا من الفولاذ حتى يتحملا هذا السيل المتواصل من أخبار الدنيا ومشكلاتها.

لست أدعو أحدًا إلى رمي التلفزيون والجوال في البحر. ما أدعو إليه ببساطة هو ترشيد حالة الهوس بتفاصيل العالم. فمعرفة كل صغيرة وكبيرة لا تزيدنا إلا تعبًا فوق تعب. ومن جهة أخرى، جدل المجالس لا يقل خطرًا عن متابعة أخبار الدمار. لنفترض أن شخصًا جادلك في أمر؛ لماذا كل هذا التفاني لإثبات خطأه؟ قل ما تعتقده حقًا ثم اصمت. ماله داعي هذا «المعايا» الذي ينهك القلب! خير يا طير، إذا لم يقتنع، ماذا سيحدث؟ هل ستنهار الكرة الأرضية؟ باختصار: ريّح بالك واترك عنك المهاترات التي لا تنتهي، فالطريق الأقرب لانسداد شرايين القلب والإصابة بالضغط والسكر - بعد هزيمة الاتحاد - هو هذه الجدليات.

أدعو إخواني إلى التحلّي بهذه الخلّة الشريفة، خِلّة «ما ليّي زاغر». هذه الصفة وحدها كفيلة بتخفيف جزء كبير من العبء النفسي الذي نعيشه بسبب ما يحدث في هذا الكوكب الصغير. اهرب يا سيدي بكل سرعتك من محطات الأخبار؛ فليس فيها ما يسرّ فقد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، اهرب من تويتر وأخواته، فلن تجد هناك إلا ما يملأ القلب همًّا فوق هم. أفعل ذلك إذا كنت تريد لقلبك وعقلك أن يهدأ ولو قليلًا. أما إن أصريت على متابعة كل صغيرة وكبيرة؛ فأظن أننا سنجلس بعد مدة قد لا تكون طويلة نترحّم عليك ونقول: «الفاتحة له، كان رجلًا طيبًا بيننا ثم رحل».