آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 2:41 م

بين الجدّ واللعب

ياسين آل خليل

لم يعد الإنسان المعاصر يفتقر إلى الوسائل، بل إلى الإيقاع. هو يعرف الكثير، ويبدأ الكثير، لكن لا يمكث طويلًا في أي شيء. إنه كاللاعب الذي يدخل كل مرحلة من اللعبة دون أن يفهم القصة. وحين يضيع السياق، تفقد كل مهمة معناها مهما كانت نبيلة. الحل ليس في مزيدٍ من الانضباط، بل في استعادة الإحساس باللعب الهادف، ذاك الذي يعيد للأفعال روحها الأولى.

كثيرون يظنون أن النجاة من التشتت تكون بالصرامة، لكن الصرامة حين تنفصل عن المتعة تتحول إلى عبءٍ جديد. اللعب بجدّ لا يعني الاستهتار، بل أن تدخل بانغماس كلي وفرحٍ كمن يلعب لعبة يحبها ويعرف أن لكل مرحلة غاية. حين ندخل مهامنا اليومية بهذا الإحساس، نحافظ على طاقتنا ونستردّ قدرتنا على التركيز، لأننا لم نعد نعمل ضد الزمن، بل نتحرك معه.

في اللعبة، الفوز ليس دائمًا الوصول إلى النهاية، بل اجتياز المرحلة. وكذلك في الحياة، المطلوب ليس إتمام كل شيء، بل إنجاز الشيء الذي بين يديك بإتقانٍ ورضا. حين تعامل مهامك ك ”مستويات“ صغيرة، تبدأ تشعر بلذة التقدّم. كل خطوة صحيحة هي مكافأة، وكل تراجع هو تدريب على وعيٍ جديد.

اللعب الحقيقي يمنحنا مكافآت فورية.. صوت، ضوء، إحساس بالتقدّم. وفي الحياة، هذه المكافآت لا تأتي إلا بالوعي. كأن تقول لنفسك بعد إنجاز مهمة صغيرة.. ”ها أنا أتحرك.“ هذه الجملة البسيطة ليست رفاهية نفسية، بل هي غذاء للإرادة. فالعقل يحتاج أن يرى أثر جهده، كما يحتاج الطفل أن يُربَّت على كتفه بعد محاولة أولى ناجحة.

حين تَدخل مهامك كأنك ”تلعبها“، تخلق لنفسك نظامًا طبيعيًا للمكافآت والتكرار. تصبح المهمة مغامرة، لا واجبًا. يتحول التركيز من محاولة السيطرة على الوقت إلى الاستغراق في اللحظة، ومن الخوف من الإخفاق إلى متعة التجريب. هكذا يبدأ الإنسان المعاصر في استعادة نفسه.. لا بتقليل المهام، بل بزيادة الوعي أثناء الأداء.

المرح ليس سطحيًا إذا كان مصحوبًا بالنية. اللعب الواعي يجعلنا نمارس الجدية، ونتقدّم دون أن نحترق. فهو يعلّمنا الإصغاء لما نقوم به، والاستمتاع بالبداية والنهاية وما بينهما. ومن يدرك جمال اللحظة، لا يحتاج إلى معجزة ليكمل الطريق.

في النهاية، ليست المشكلة في التشتت الخارجي، بل في الغياب الداخلي. وحين نلعب بجدّ، نعود إلى داخلنا.. إلى ذاك الطفل الذي كان يعمل دون خوفٍ من الخطأ، لأن اللعب عنده لم يكن منافسة، بل اكتشافًا للعالم ولذاته فيه. وحين نستعيد هذا الشعور، لا ننجز أكثر فحسب، بل نحيا أكثر.. بخفةٍ ورضا وامتنانٍ لرحلةٍ لا نريدها أن تنتهي بسرعة.