آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 2:11 م

كاتب بنصفِ قلب!

بدرية حمدان

ما دفعني إلى كتابة هذا المقال لم يكن مجرد رغبة عابرة في تدوين خاطرٍ أو الإمساك بفكرةٍ هاربة، بل كانت تلك اللحظة الفارقة التي شعرتُ فيها أن الصمت صار أثقل من أن يُحتمل، وأن البوح يحتاج إلى نافذة يطلّ منها ولو قليلًا. حين مددتُ يدي إلى الورق، كنت أظن أن اللغة ستتسع لكل ما أحمله، وأن قلبي إذا فتحته مرة واحدة فسيسهل علي إغلاقه بعد ذلك.

لكنني فوجئت بأن الكتابة ليست فعلًا ساذجًا كما تخيلت، وأن الصراحة المطلقة ليست طريقًا ممهدًا نحو الخفة، بل قد تكون طريقًا نحو انكشافٍ لا نعرف كيف نتراجع عنه.

كنت أظن أن الكتابة بقلبٍ كامل هي أصدق أشكال الكتابة، وأن الاعتراف الكامل يطهّر الروح مما أثقله الزمن، غير أنني أدركت، مع كل سطرٍ كتبته ثم ترددت في تركه حيًا، أن هناك طبقات من الشعور لا يصلح أن تُعرض للضوء، وأن بعض الأعماق إذا أُخرجت من مكانها فقدت معناها، أو فقدنا نحن شيئًا من تماسكنا، هناك كلمات حين تُقال تجرح صاحبها أكثر مما كانت تجرحه وهو صامت، وهناك أسرار تضيق بها اللغة مهما حاولت أن تتسع لها. فالتعرية الكاملة تجاوز.

عندها فقط فهمت أن ليس كل ما نشعر به يُكتب، وأن الكتابة ليست ساحة مكشوفة لكل ما يدور في الداخل، بل هي فن الاختيار.

ماذا نُظهر؟ وما الذي يجب أن يظل في ظلامه الآمن؟

ومن هنا بدأتُ أرى الكاتب الذي يكتب بنصف قلب على نحوٍ مختلف. لم أعد أراه ناقصًا أو مترددًا، بل رأيته حكيمًا، ناضجًا، يعرف معنى الحماية. فالكتابة بنصف قلب ليست جبنًا ولا انسحابًا، بل وعي بأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش إذا سلم كل أجزائه للورق. النصف الذي يبقى في الداخل هو ما يحفظنا من الانهيار، هو الجزء الذي نحتاجه لنواصل العيش، والحب، والتجربة، دون أن نُهدر أنفسنا في العلن.

في عالمٍ يفيض بالكلام ويزدحم بالاعترافات العشوائية، يصبح الكاتب بنصف قلب هو الأكثر صدقًا، لأنه يدرك حدود اللغة وحدود الذات، يعرف أن الورق ليس دائمًا صديقًا، وأنه قد يكون مرآة قاسية تعكس ما لم نكن نريد رؤيته، لذلك يمنح نصه نصف الضوء، ونصف الحقيقة، ونصف الوجع، ويترك النصف الآخر في منطقة لا يصل إليها أحد سواه، ليست بخلاً، بل حفاظًا على ما تبقى من سرية الروح.

ومع ذلك، لا يكون تأثير هذا الكاتب نصف تأثير، فالنصف الذي يقدمه للقراء هو الجزء المفلتر، المصفى، المختار بعناية، الجزء الذي يسمح له بأن يعيش خارج جسده دون أن يجرّده من نفسه، هو الجوهر الذي يبقى بعد أن يُزال ضجيج الخوف، والمبالغة، وردود الفعل الأولى التي لا تُعبّر عن أعماقنا بقدر ما تُعبر عن لحظات ضعفنا.

وهكذا أدركت أن الكتابة ليست امتلاءً، بل اتزانًا دقيقًا بين ما يُقال وما يُحفظ. ليست بوحًا شاملًا، بل حكمة في الإفصاح، وجرأة في الإمساك بما يجب أن يبقى صامتًا. ففي بعض الأحيان يكون النقص شكلًا آخر من أشكال الاكتمال، وتكون المساحات البيضاء في النص أكثر صدقًا من الكلمات السوداء التي تملأه.

الكتابة بنصف قلب ليست نقصًا في الكتابة، بل وفاء للنفس، وربما هي الطريق الأكثر صدقًا لقول ما نستطيع قوله، دون أن نخسر ما يجب أن يظل لنا وحدنا.