كتاب يوثّق الذاكرة.. الأستاذ عبدالله المشعل يرسم ملامح الحليلة بحبر الوفاء
في زمنٍ تتسارع فيه الأيام، وتغيب فيه الذاكرة الجمعية تحت ركام العابر، يطلّ علينا الأديب والباحث الأستاذ عبدالله بن عبدالمحسن المشعل بعملٍ استثنائي يحمل عنوان «شيء من تاريخ الحليلة»، ليعيد ترتيب ملامح المكان في ذاكرة الزمان، ويكتب للأجيال سيرة بلدةٍ عاش فيها الناس بالكلمة، وعمروا أرضها بالعلم والعمل.
هذا الكتاب الجديد بعنوان «شيء من تاريخ الحليلة» من تأليف الأديب والباحث الأستاذ عبدالله بن عبدالمحسن المشعل، وهو أول كتاب من نوعه يتناول تاريخ بلدة الحليلة، وقد طُبع في عام 1447 هـ «2025 م»، ويقع في 525 صفحة.
ليست الحليلة مجرد بقعة على خارطة الأحساء، بل صفحة مضيئة من تراثها الإنساني والعلمي؛ من بين نخيلها وعيونها انبثقت مدارس العلم، وخرج الأطباء والمعلمون والخطباء الذين حملوا رسالة الخدمة والإصلاح.
وجاء كتاب الأستاذ عبدالله المشعل ليكون بمثابة ”خزانةٍ روحية“ تحفظ أسماء أولئك الرجال والنساء الذين صنعوا هوية البلدة ونسجوا تاريخها بأيديهم الطاهرة.
في بداية الكتاب تضمّن المؤلف إهداءً شعريًا من أربعة أبيات، أهدى فيه الكتاب لأهل الحليلة، مشيدًا بمجدهم وكرمهم، ثم افتتح بمقدمةٍ ذكر فيها الدوافع وراء تأليف الكتاب، وهي الرغبة في توثيق تاريخ البلدة وإتاحته للأجيال.
يهدف الكتاب إلى تعريف أبناء الحليلة وغيرهم بتاريخ البلدة وأعلامها. وقد جمع الأستاذ عبدالله ما استطاع من وثائق وأخبار وقصائد، وتناول البلدة من حيث جذورها التاريخية وأسرها ورجالها ونسائها وأنشطتها ومناحي الحياة فيها.
يقع الكتاب في أكثر من خمسمائة صفحة، تضم بين طياتها فصولًا عن نشأة البلدة، ومساجدها، ومجالسها، ورواد التعليم، وأعلام الطب والعلم والأدب والعطاء الإنساني والاجتماعي فيها. قد جمع المؤلف مادته من الوثائق الشفهية والمكتوبة والصور النادرة، معتمدًا على الرواية الميدانية الدقيقة التي استقاها من كبار السن والمربين.
ولم يكتفِ بالسرد التاريخي، بل صاغ المادة بلغةٍ أدبية رفيعة تجمع بين التوثيق والحنين.
الكتاب يُعدّ بمثابة سجلٍّ توثيقيٍّ حيٍّ لبلدةٍ عريقة من بلدات الأحساء — الحليلة — التي عُرفت بعلمها وأصالتها وكرم أهلها.
ولأن التراث الأحسائي زاخر بالشخصيات العلمية والتربوية والطبية، فقد جاء هذا العمل ليملأ فراغًا في المكتبة المحلية التي طالما افتقدت مراجعَ متخصصة في تاريخ القرى الأحسائية بتفصيلاتها الدقيقة.
ويتميّز المؤلف، الأستاذ عبدالله المشعل، بأنه ينتمي وجدانيًا إلى المكان؛ فهو لا يكتب كمؤرخٍ بارد، بل كابنٍ وفيٍّ، يدوّن بمداد المحبة والتقدير، ولذلك تجد في أسلوبه تمازجًا بين السرد الأكاديمي الموثّق والأسلوب الأدبي الوجداني الذي يمنح النص روحًا نابضة.
يتوزع الكتاب على عدة أقسام وفصول متكاملة، تغطي الجوانب الآتية:
يتناول المؤلف بدايات الحليلة، موقعها الجغرافي، حدودها القديمة، الأسر القاطنة، مصادر المياه، الحياة الاجتماعية، المجالس المشهورة، الصلات والروابط الاجتماعية، والحياة الاقتصادية والدينية.
ويُظهر كيف شكّلت البيئة الزراعية والاجتماعية فيها نسيجًا إنسانيًا متماسكًا يقوم على التكافل والتعليم والعبادة.
يستعرض المؤلف العادات الاجتماعية والمناسبات الدينية والوطنية والاحتفالات الشعبية، من المواليد إلى الأعراس والمآتم والمجالس الأدبية، مع توثيقٍ لصورٍ ووثائق نادرةٍ تعود إلى منتصف القرن الماضي.
ذكر الكاتب الحِرَف التقليدية التي اشتهر بها أبناء الحليلة، وتحدّث عن النجّارين والحدّادين والبنّائين والفلاحين والنسّاجين والخبّازين والمحسِّنين، والخياطين، والقصّابين، والقطّانين، وغيرهم ممن مثّلوا روح العمل والإتقان في حياة البلدة، فكانت المهنة عندهم رسالة شرفٍ وخدمةٍ، لا مجرّد مصدر رزق.
ويمثّل هذا التوثيق وفاءً لجيلٍ صنع بجهده هوية الحليلة، وجعل من الحرفة رمزًا للكرامة والانتماء، ومن بساطة المهن بذورًا لنهضةٍ إنسانيةٍ امتدّ أثرها في الأجيال.
أشار الكاتب إلى المؤسسات الفاعلة في البلدة: جمعية الحليلة الخيرية، نادي العدالة، لجنة المتابعة الأهلية، الزواج الجماعي، جمعية الحلول التنموية للإسكان، ومؤسسة رفد للقرض الحسن، موثقًا أدوارها التنموية والخدمية.
أما الشعراء، فقد خصّهم المؤلف بتوثيقٍ أدبيٍّ جميل، ضمّ نماذج من قصائدهم التي تجسّد الوعي الديني والفكري والوطني، وتعبّر عن ارتباطهم العميق بأرضهم وهويتهم، لتبقى سيرهم مرجعًا للأجيال القادمة ومصدرَ إلهامٍ واعتزاز.
في هذا القسم يعرض المؤلف تطور التعليم في الحليلة من الكتاتيب التقليدية إلى المدارس الحديثة، مع تراجم للمربين الأوائل الذين حملوا مشعل العلم، وأثرهم في بناء الوعي لدى الأجيال.
يتناول هذا القسم تراجمَ نخبةٍ من الشخصيات العلمية والدينية والأدبية والاجتماعية التي كان لها أثرٌ ملموس في الحركة الثقافية والدعوية والتعليمية والاجتماعية في بلدة الحليلة.
وقد أضاء المؤلف سِيَر الشخصيات العلمية والخطباء والكتّاب الذين أسهموا بعلمهم وكلمتهم في تنمية الوعي وبناء الأجيال.
كما أضاف تراجم الرجال البارزين من أبناء البلدة الذين تميّزوا بعطائهم في ميادين متنوّعة؛ في التعليم، والإدارة، والخدمة الاجتماعية، والعمل الأهلي، والتمثيل، والتصوير فكانوا نماذج رائدة في المبادرة والقيادة المجتمعية.
أفرد الكاتب فصلًا تناول فيه الكفاءات العلمية من أبناء الحليلة، فسلّط الضوء على الأطباء والممارسين الصحيين الذين يُعدّون فخر البلدة، مبرزًا مسيرتهم التعليمية وتخصصاتهم وإسهاماتهم في خدمة المجتمع المحلي والوطني. ولم يكتف المؤلف بسرد الأسماء، بل حرص على توثيق سِيَر عدد من الأطباء المتميزين، مشيرًا إلى قيمهم الإنسانية وأخلاقياتهم المهنية التي جعلت حضورهم مثالًا يُحتذى في ميادينهم. كما أشار إلى أبناء الحليلة من حملة الدكتوراه في تخصصات غير طبية، موضحًا تنوع مجالاتهم البحثية وإسهاماتهم العلمية في مجالات التربية والعلوم الإنسانية والهندسة وغيرها، مما يعكس ثراء الحليلة بالطاقات الأكاديمية المتخصصة.
وفي جانبٍ آخر، توقف الكاتب عند أبناء البلدة الذين أسهموا في إثراء المشهد الثقافي والمعرفي بإصداراتهم المتنوعة، فوثّق مؤلفاتهم التي تنوّعت بين الأدب والتاريخ والفكر والبحث العلمي، مبرزًا أثرهم في تعزيز مكانة الحليلة في المشهد الثقافي الوطني. كما استعرض محطاتٍ وذكرياتٍ مجتمعية شكّلت جزءًا من ذاكرة الحليلة، موثقًا مواقف وأحداثًا تعبّر عن روح التعاون والتلاحم بين أهلها، وما شهدته البلدة من تحولات اجتماعية وثقافية على مرّ السنين.
واختُتم الكتاب بموضوعين متميزين؛ أولهما تناول الجوانب الإنسانية والفكرية والثقافية للأستاذ عبدالله بن عبدالمحسن المشعل، معرفًا بمسيرته وجهوده في خدمة البلدة، وثانيهما مقال للأستاذ هشام السناوي بعنوان «عمالقة يصنعون الفرق» قدّم فيه نماذج لشخصيات كان لها أثر بارز في تنمية المجتمع المحلي، ليُغلق المؤلف كتابه بإشادة رمزية بالعطاء الإنساني والجهود المخلصة التي صنعت الفارق في تاريخ الحليلة.
من خلال هذه الدراسة نوصي بما يلي:
1. قيام باحثين بدراسة تاريخ الحليلة دراسةً مفصلة.
2. مساعدة الباحثين بما يتوافر من معلوماتٍ ووثائق قد خفيت علينا أو لم نتمكن من الوصول إليها.
3. نشر كل ما من شأنه كشف المزيد من المعلومات التي تصب في هذا المجال.
4. التعريف بالشخصيات الهامة في المجتمع وتسليط الضوء على حياتهم.
5. على العلماء والأساتذة والأطباء والمهندسين والأدباء والشعراء والمبدعين وغيرهم في شتى المجالات إخراج إنتاجهم إلى العلن.
6. تكوين لجنة لإخراج تراث بلدة الحليلة كما ينبغي.
7. تبنّي رعاية ما يُكتب عن بلدة الحليلة وطباعته ونشره إسهامًا في التعريف بما تحمله من ذخائر ونتاجٍ قيم.
8. تعريف الأجيال والمجتمعات بتاريخ الحليلة ونتاج أبنائها.
9. يمكن أن تؤسَّس بعض مواد هذا الكتاب لدراساتٍ مفصلة، مثل كتابٍ عن المرحوم المهندس عبدالله جاسم الكشي، وكتابٍ آخر عن الملا محمد حسين المبارك، وعن الكتاتيب، وعن الشعراء، وتاريخ العمودية في الحليلة، وغيرها من الموضوعات.
هذا العمل لا يُقرأ ككتابٍ تاريخي فقط، بل ك مرآةٍ للهوية الجماعية لقريةٍ وُلدت فيها محبة العلم والإحسان، فكل سيرةٍ فيه هي شمعةٌ مضيئة في ذاكرة المكان.
لقد جعل المؤلف من الحليلة نموذجًا مصغّرًا للإنسان الأحسائي: العالم، والمربي، والطبيب، والمحب لأرضه وأهله.
كما أن الكتاب يعكس رسالةً تربويةً وأخلاقيةً عميقة — مفادها أن المجتمعات تنهض حين تكرّم أبناءها وتوثّق سير روّادها، فلا يضيع أثرهم بين أجيالٍ لا تعرف من سبقها.
وفي هذا السياق يمكن القول إن «شيء من تاريخ الحليلة» هو لبنةٌ في بناء الوعي التاريخي للأحساء، ويستحق أن يُقرأ بعنايةٍ كمصدرٍ للهوية والانتماء.
من يقرأ الكتاب يدرك أنه رسالة حبٍّ ووفاءٍ للحليلة وأهلها؛ فكل سطرٍ فيه ينبض بعرفانٍ لرجالٍ تعبوا في صمت، ونساءٍ ربّين أجيالًا، ومعلمين لم يغادروا الذاكرة.
إنه عملٌ لا يُقرأ كمرجعٍ فحسب، بل كتعبيرٍ عن هويةٍ جماعيةٍ تعتز بأصولها وتحتفي برموزها.
هذا العمل يُعدّ نموذجًا يُحتذى به في توثيق تاريخ القرى والمدن السعودية، ودعوةً للمؤرخين الشباب أن يسلكوا درب الأستاذ المشعل في توثيق تراث مجتمعاتهم الصغيرة قبل أن تبتلعها العولمة والنسيان، فمن لا يوثّق ماضيه، لن يُحسن قراءة مستقبله.
لقد نجح الأستاذ عبدالله المشعل في أن يجعل من كتابه جسرًا بين الذاكرة والوجدان، وبين الحاضر والماضي.
إنه كتابٌ يُقرأ بالقلب قبل العين، ويُشكر عليه كل من يحمل في قلبه حبًّا للأحساء وأهلها.
«الكتاب ليس مجرد أوراقٍ تُقلّب، بل ذاكرة تُستعاد، وعرفان يُكتب بحروف الوفاء».
تحية للأستاذ عبدالله بن عبدالمحسن المشعل على جهده المبارك، ولأبناء الحليلة الذين جعلوا من العلم والعطاء عنوانًا لهم.
رسالة خاصة إلى أخي الأديب الباحث عبدالله بن عبدالمحسن المشعل
أبعث لك من سويداء القلب تحيةً تليق بجهدٍ نادرٍ، وصبرٍ جميلٍ، ووفاءٍ لا يذوب في زحام الأيام.
لقد حملتَ في هذا الكتاب نبضَ القرية في صفحاتها، وصوتَ الأجداد في حروفها، وذاكرةَ الطفولة في ممراتها.
أعدتَ للحليلة ملامحها الأولى، حين كانت الأرض تنبض بالعطاء، والقلوب تزرع الخير كما يزرع الفلاح حبَّ القمح في تربته المؤمنة.
إنّ عملك هذا ليس مجرّد توثيقٍ للتاريخ، بل هو تسبيحٌ للحياة في وجوه أهلها، وإحياءٌ لروح المكان التي طالها النسيان.
وما أحوجنا إلى مثل هذه الأعمال التي تُبقي الجذورَ حيّةً في وجداننا، وتذكّر الأجيال بأنّ الوفاء للوطن يبدأ من حكاية قرية، ومن احترام الحبر الذي سُكِب في سبيلها.
ولأهلي وإخواني في الحليلة، أرض العلم والنخيل، ومهوى القلوب الصافية، لكم من القلب سلامٌ طيّبٌ كنسيم الفجر بين نخيلكم، ودعاءٌ بأن تبقى بلدتكم منارةً في العطاء والوعي والمحبة.
سلامٌ على كل بيتٍ فيها ما زال يفتح بابه للعلم والضيافة، وسلامٌ على رجالها ونسائها الذين جعلوا من البساطة طريقًا للمجد، ومن الإخلاص منهجًا للحياة.













