آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 7:11 م

من عبق الماضي: الداية بنت البناي ”ذاكرة الجونية والصيدلية“

حسن محمد آل ناصر *

في قصاصات ورقية قديمة أخذتني بعيدا نحو الأيام الخوالي، كانت أوراق كتبتها ودونت عليها مقابلات حينما كنت صغيرا مع كبار السن من النساء في الوقت نفسه ”جدات“ أكثر من كونهن أمهات، بعضهن قابلة ”داية، ولادة“ وغيرهن ممن كسبن عمق العلاج وممارسة الصيدلة، وهذه الصيدلة لا يعرفها أغلب جيل اليوم.

فالحاجة ”فاطمة بنت أحمد البناي“ رحمها الله من مواليد القديح كانت من أولئك اللواتي كان لهن باع كبير في تلك المهنة ”الطبيبة الشعبية“ فتحت بابا في جدار الزمن بسيطاً في إطلالته لكنه عميق المعاني، حكت لي عن «الجوانية أو جواني» جمع جونية تلك الأكياس المصنوعة من الخيش، والتي كانت تملأ بها الأعشاب والمخصصة لحفظ الأعشاب الطبية، ولم تكن تلك الأعشاب مجرد دواء لكنها كانت سرا من أسرار الجدات وموروثا عميقا وعتيقا يحتل مكانا في البيوت آنذاك.

أكتب هذه المقالة ليس فقط عن الأعشاب، بل عن ذاكرتنا العلاجية وطرق الحفظ القديمة وكيف كانت الصحة تبدأ من دكان العطار وتنتهي عند كوب مغلي في بيت الجدة، في الأزمنة الماضية لم تكن الأعشاب تحفظ كما تحفظ اليوم في قناني أنيقة وأكياس مفرغة من الهواء، كانت أكياس الخيش وكما تسمى باللهجة الدارجة لبعض مناطق القطيف ”اليوانية، اليواني“ هي المأوى الأول للعقاقير الطبيعية كالزعتر والحرمل والجعدة والكرط تجمع وتجفف وتوضع في تلك الأكياس لتبقى عرضة لأشعة الشمس والرطوبة والغبار، في بيئة أبعد ما تكون عن شروط التخزين المثالية التي نعرفها اليوم.

ونرى في الأسواق القديمة وتحديدا في الخليج أن محلات العطارين تشبه المتاحف الحية لكنها متاحف متعبة ”دكاكين ضيقة“ والأرفف متآكلة وروائح الأعشاب تختلط بروائح الغبار والدهون والعقاقير تزدحم دون ترتيب حيث تخزن في صفائح معدنية صدئة أو أوان زجاجية فقدت بريقها أو حتى في أوراق صحف قديمة وأكياس نايلون ممزقة.

رغم إيمان البعض لا سيما كبار السن نساء ورجال بفعالية تلك الأعشاب إلا أن طرق حفظها التقليدية كانت تفقدها الكثير من خصائصها، فقد تمر بتضاريس ومراحل عدة كالحرارة العالية والرطوبة المستمرة واختلاط الأنواع ببعضها وطول فترة التخزين دون رقابة، فهذه العوامل تؤدي إلى تراجع فاعلية المادة الفعالة في كل عشبة، فما كان يستخدم للتداوي قد يتحول في ظل تلك الظروف إلى مجرد عشب لا طعم له ولا أثر.

ولعل أكثر ما يؤسف له هو أن هذه الطرق العشوائية أدت إلى عزوف كثير من الناس عن التداوي بالأعشاب، رغم الاعتراف الضمني بأهميتها وفوائدها حتى أصبح بعضهم يربط بين طب الأعشاب وبين التلوث والجهل في حين أن المشكلة لا تكمن في الأعشاب نفسها إلا أن السر في طريقة إعدادها وتخزينها.

ما زالت الأعشاب تملك في تركيبتها أسرارا علاجية حقيقية لكن علينا أن ننتقل بها من ”الجواني وأوراق الجرائد“ إلى قوارير الصيدليات المعقمة، يجب أن تخضع هذه العقاقير لعمليات فرز وتنظيف وفحص مخبري بإشراف مختصين في علوم العقاقير والطب البديل ليعاد دمجها في المنظومة الصحية الحديثة بطريقة أكثر أمانا وفاعلية، وليس المطلوب إقصاء العطارين ولا دفن ما ورثناه عن الجدات غير أن المطلوب إعادة تنظيم هذا الموروث الثمين في قوالب علمية تضمن الجودة وتحفظ الفعالية الدوائية وتحمي صحة الإنسان.

وكلما انتهت ”الحاجة البناي“ من سردها كانت تقول لي: «زمان كانت الأعشاب تغلى في الماء وبالذات الجعدة ويشفى بها صداعنا قبل أن نعرف المسكنات»، حينها فقط أفهم أن المسألة لم تكن مجرد علاج كانت نمط حياة وثقة بالطبيعة وصبر في الوقت.

كانت الحاجة البناي ذات السابعة والسبعين عاما تحكي لي وكأن ما ترويه محاضرة في حفظ الأعشاب والدواء، كنت أراها وأنا لم أتجاوز السابعة من عمري تحمل فوق رأسها قفة عائدة من سوق الخميس بخطى ثابتة ونظرة يملؤها العزم، وحين كبرت أدركت أن تلك المرأة لم تكن عادية فقد كانت طبيبة وولادة تعالج وتطبب وتداوي مرضى البلدة.

أجل لقد كانت بمثابة الدكتورة في زمننا هذا، كانت تمرخ ”تجري علاجا طبيعيا“ وتجبر الكسر بمهارة لا تضاهى وما رأيت في غرفتها يوما إلا الخيش والأكياس المملوءة بالأعشاب ورؤوس الثعابين وأشياء من هذا القبيل مما كانت تستعمله في وصفاتها القديمة، كانت امرأة أرملة عصامية كادحة صنعت لنفسها مكانة بجهدها وصبرها، كتبت عنها قصة وأسميتها: ”امرأة من زمن الستين“.

أحيانا يغادرنا الناس لكن أثرهم يبقى حيا في تفاصيل حياتنا الصغيرة، وفي ذاكرتنا التي لا تنسى، تلك المرأة التي ألهمتني أن أكتب، لم تكن مجرد رمز للخبرة في الأعشاب والدواء لكنها كانت درسا حيا في الصبر والعطاء، علمتني أن الشفاء يبدأ من القلب قبل أن يصل إلى الجسد وأن الحكمة تنبت من رحم التجربة والتحدي.

فشكرا لذاكرتنا التي ما تزال تحفظ من أعشاب الأمس شيئا من شفاء الروح قبل الجسد لتظل ذكرى من زمن مضى لكنها حية في حاضرنا تلهمنا لنستمر في التعلم والكتابة والتأمل، سلاما لروحها الطاهرة ورحمها الله رحمة الأبرار الأخيار.