آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:18 ص

مضامين العبادة عند الزهراء (ع)

ورد عن رسول الله ﷺ: «إنّ ابنتي فاطمةَ ملأ اللهُ قلبَها وجوارحها إيمانا إلى مشاشِها، فتفرَّغت لطاعةِ اللهِ» [المناقب لابن شهرآشوب ج 3 ص 337 ].

طريق السعادة في الدارين هو التقرب إلى الله تعالى في محراب الطاعة والعبادة حتى تأنس النفس بالسكينة والطمأنينة والهدوء النفسي، وتغدو الحياة ميدانا للورع من محارم الله تعالى ومواجهة المكر والتزيين الشيطاني الداعي للانغماس في الشهوات والأهواء المتفلّتة، فالعبادة ليست مجرد طقوس جامدة وخالية من المضامين والأسس المؤثرة على الفرد، بل ملؤها المعاني الروحية والأخلاقية والمعرفية والاجتماعية الساعية به نحو التكامل والرقي والطهارة النفسية، فتحضر العبادة كعامل محفّز نحو عمل الخير وصنع المعروف والتعامل الحسن بين الناس والتوجيه نحو تكوين الزاد المعرفي والثقافي، كما أنها تكبح جماح النفس عن الاستجابة العمياء للأهواء المتحركة بحاكمية الغرائز، والتي تسقطه في وحل العيوب والنقائص والرذائل الأخلاقية الملوّثة لنفسه، وهذا ما يتجلّى بوضوح في عبادة مولاتنا الزهراء والتي كانت تجسيدا لمعرفة عميقة بالله تعالى، وشوق دائم إلى القرب منه وذوبان في محبّته جلّ شأنه.

هذا الحديث الشريف يضعنا أمام حقيقة روحيّة عميقة وهي إنّ الإيمان الكامل هو الأساس الحقيقي للتفرّغ للعبادة، فحين يمتلئ القلب بالإيمان لا يبقى فيه موضع لغير الله ويصبح التوجّه إليه هو الغاية الكبرى للحياة، فالإيمان هو حالة وجوديّة تملأ الكيان كلّه وتحوّل الإنسان إلى عبد لله تعالى في فكره وشعوره وسلوكه وحركته في الحياة.

الناس في عبادتهم درجات فالإنسان المؤمن العادي يؤدي الفرائض اليومية وبعض النوافل محافظا على الحدّ الأدنى من العلاقة الروحيّة بالله تعالى، أما الزهراء ؟ فقد تجاوزت هذه المرتبة إذ عبادتها لم تكن تكليفا تُؤدّيه بل كانت حياة، كانت ترى في كلّ عمل طريقا إلى الله تعالى فحتى أعمالها اليومية - كالعناية ببيتها وتربية أولادها وخدمة زوجها أمير المؤمنين - كانت تؤديها بنية القرب والطاعة، وبهذا المفهوم العميق تحوّل كلّ جزء من حياتها إلى عبادة متواصلة لا تنقطع؛ لترسم لنا معالم الرقي والتكامل الروحي والأخلاقي بتهذيب النفس من شوائب الغرائز والمشاعر السلبية.

وقد يتبادر إلى الذهن أنّ التفرّغ للعبادة يعني الانعزال عن المجتمع والانصراف عن المسؤوليات والواجبات الحياتية، غير أنّ الزهراء قدّمت لنا نموذجا فريدا للتوازن بين العبادة والعمل الأسري الاجتماعي والعمل الرسالي التبليغي، فهي - رغم تفرّغها الروحي - كانت محور البيت النبويّ ومصدر العطاء الإنسانيّ ومعلّمة النساء، فتُظهر لنا سيرتها أنّ العبادة ليست انعزالا عن الحياة، بل هي تربيةٌ للروح على الانخراط في الحياة بروحٍ إلهيّة، إنّها عبادة المخلِصين الذين انقطعت قلوبهم عن كلّ ما سوى الله تعالى وامتلأت رحمة بالناس ودعاء لهم، فالتفرّغ للعبادة في حياة الزهراء مدرسة تربويّة وأخلاقية تُعلّم الإنسان كيف يسمو بروحه فوق المادّة، وكيف يجعل من الطاعة زادا لمواجهة التحديات والصعوبات الحياتية، فمن يتأمل سيرتها يدرك أنّ العبادة عندها كانت أساسا لصفاء النفس ونقاء القلب واستقامة السلوك.