آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 1:30 م

جمال المرهون.. السيرة التي تمشي على مهل

عماد آل عبيدان

في الخويلدية وبين ظلال النخيل ودفء القلوب عاش رجل يشبه الفكرة حين تُثمر يمضي بهدوء ويترك أثرًا يطول. في حي المنيرة شرق القطيف، كان الدكتور جمال عبدالله جواد المرهون - «أبا محمد» - أحد أولئك الذين عاشوا بهدوء نادر وتركوا لأفعالهم أن تتكفل بالحديث عنهم بعد الغياب فبقي حضورهم شاهدًا رغم رحيلهم.

جار وأخ وصديق منذ عام 1407 هـ، هكذا وصفه أحد أحبّته وجيرانه الأخ أبو سعيد عبدالإله آل عبيدان:

«أخي وصديقي وجاري منذ أربعين عامًا، كنّا معًا في كل عام في زيارة الأربعين إلى الإمام الحسين وكان أحد مؤسّسي الحملة الخيرية المجانية للزيارة لا يحب أن يُذكَر اسمه بل أن يُكمَّل العمل.»

ذلك هو جوهره: رجل يعمل دون إعلام ولا إعلان، يفيض خيره في الدروب دون أن يترك بصمة تبحث عن الضوء. إنسان يرى في العطاء نُبلًا فِعليًا، وفي الإخلاص لغته الأبلغ.

يقول الأستاذ زكريا أبو سرير في وداعه له:

«رحم الله الأخ والصديق الغالي الدكتور جمال «أبا محمد» … لقد فجعت بخبر رحيلك إلى الرفيق الأعلى… كان منزلك عامرًا بالأنشطة الدينية والثقافية تشاركك فيها حرمتك الدكتورة أم محمد - حفظها الله - من مجالس أبي عبدالله الحسين إلى المنتدى الثقافي الأسبوعي الذي استضاف نخبة من العلماء والشخصيات الوطنية المؤثرة.»

ذلك البيت لم يكن جدرانًا وأثاثًا إنما مدرسة صغيرة للحوار والفكر والإيمان تُعقد فيها جلسات المعرفة ويزرع فيها الوعي والثقافة وحلقات الذكر والقرآن الكريم، ويروى فيها الود. بيت تضيئه الأرواح لا المصابيح.

كان جمال يرى في الحياة مشروعًا للإفادة لا للمباهاة.

كان يؤمن أن الدين يمارس في السلوك قبل القول، وأن الثقافة وعي يثمر نفعًا لا ادعاء، وأن الجوار عهد إنسانية يصان بالمودة والتعاون لا بحدود البيوت.

رأى في البساطة ثراء، وفي الفعل المتقن طريقًا إلى الخلود. عاش مع الناس كما هم وساعدهم كما لو أنه واحد منهم، لا متفضل عليهم.

لقد امتد عطاؤه من قاعات الدرس إلى أزقة الحي، ومن حلقات العلم إلى المبادرات الخيرية ومن الندوات الفكرية إلى مجالس الذكر الحسيني. ترك سيرة تشبه النسيم الذي لا يُرى، لكنه يُشعر به أينما مر.

من سيرته تولد معان تتجاوز الوداع، وتتحول إلى دروس نحتاجها جميعًا:

1. العمل الهادئ: فحيث يركض الناس نحو الظهور، اختار جمال طريق الجوهر، فكان إنجازه أن يحب ويفيد دون أن يتكلم.

2. الاستمرار دون فتور: ما من عام إلا وله فيه بصمة، من مجالس الفكر إلى رحلة الأربعين، من مقعد التدريس إلى ميدان الخدمة.

3. الانتماء الفعلي: لم يتعامل مع المكان كعنوان سكني، بل كهوية ومسؤولية. حمل الخويلدية والمنيرة في قلبه، وبقي فيهما ما بقي الدعاء والذكر.

لم يكن وجوده حدثًا لا نفع فيه إنما سيرة تتكرر في النفوس الطيبة العاملة.

كل من عرفه شعر أن الحديث معه يشبه وضوءًا جديدًا، وأن حضوره يفتح نافذة على سكينة يندر أن تُرى.

ترك من حوله فكرة عميقة: أن أجمل ما في الإنسان أن يعيش بين الناس خفيفًا، وأن يزرع ما يظلهم بعد غيابه.

رحيله لم ينه حضوره كونه وسّعه، فأعماله تواصلت في العقول والقلوب وفي المبادرات التي شاركها وفي طلابه الذين تعلموا منه أن العلم رسالة وفي الجيران الذين رأوا فيه صدق الإنسان قبل صفاته.

إنه من أولئك الذين لا يُودَّعون إلا بالمواصلة على دربهم لا بالكلمات.

يا أبا محمد، نم قرير العين.

قدمت للناس خيرًا كثيرًا، وكتبت سطرك في سفر الإخلاص بمداد من التواضع النبيل والعمل الصالح.

ستبقى بيننا وبين أحبتك سيرة تروى، وحكاية تُذكَر كلما مر الحديث عن النبلاء والعاملين الذين جعلوا من حياتهم جسرًا للخير.

رحمك الله وأسكنك فسيح جناته، وجعل ما زرعته في قلوب الناس صدقة لا تنقطع.

هذه الحروف والكلمات هي اشراقة من حياة رجل عاش كما يراد للحياة أن نراها ونعيشها: بعطاء نقي، وعقل مشغول بالخير وقلب لا يطلب إلا أثره الطيب وما كتبته ليس تأبينا فيه إذ هو صدى ذكر طيب لأعماله.

وبلا كثرة للكلام، فجمال المرهون رحمه الله هو معنى وفعل.

إنه شاهد من الخويلدية والمنيرة عنوانه الهدوء وكتابه العمل وخلاصته أن الإنسان يمكن أن يملأ الأرض نورًا وهديًا وعملًا صالح دون أن يرفع صوته يومًا.