آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:21 ص

الطمأنينة المبرمجة: رحلة البحث عن الذات الحقيقية

عبير ناصر السماعيل *

بين علم الأعصاب والفلسفة تقف تجربة واحدة تُعيد تعريف الأمان:

هل ما نشعر به طمأنينة حقيقية، أم مجرد ”برمجة وجدانية“ تجعلنا نختار المألوف ولو كان مؤلمًا؟

رحلةٌ تبدأ من قرار شراء سيارة... وتنتهي بسؤالٍ عن ماركة الذات.

الصراع على العتبة

قبل أشهر، وقفت ذاتي على عتبة قرار، بدا ماديًا في ظاهره، لكنه كان صراعًا وجوديًا في جوهره.

كان المشهد يدور حول قطعة معدنية، بأسطوانة احتراق وضعت على أربع عجلات، أو كما نسميها: سيارة جديدة. لم يكن القرار سهلاً، لأن كل قرار شراء هو في الحقيقة قرار بـ تحديد القيمة.

أخي، بثقة مَن يعرف قواعد اللعبة الاجتماعية جيدًا، أسدى نصيحة بثقة مُرسَّخة: ”اختاري الماركات المعروفة. السمعة أهم“.

لكني، بعنادٍ يشبه فضول الروح التي تبحث عن الحقيقة، اخترت المواصفات مقابل السعر. اخترت سيارة صينية جديدة على سوقنا السعودي، أعلِّمُ نفسي ألا أشتري مجرد شعار، بل أختبر إحساسي النقي.

فخ الأمان المعرفي المُبرمَج

في الحقيقة، لم يكن رأي أخي غريبًا ولا سطحيًا. هو ابنُ تجربةٍ طويلة علّمتنا أن السمعة الجيدة غالبًا مرادف للجودة. حين قال: ”السمعة أهم“، لم يقصد المظاهر، بل الثقة المتراكمة في الذاكرة الجمعية. فالعقل، كما يبدو، لا يثق بسهولة بما لا يعرفه.

ولعل هذا ما أكدته دراسة أجرتها الباحثة كريستين بورن وزملاؤها في مستشفى جامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونيخ «2006»، حيث عُرضت على عشرين مشاركًا شعارات لمصنّعي سيارات وشركات تأمين، بعضها مشهور وبعضها مجهول. أظهرت أجهزة الرنين المغناطيسي أنّ رؤية الشعار المألوف — حتى دون لمس المنتج أو تجربته — فعّلت مناطق في الدماغ مسؤولة عن المعالجة العاطفية الإيجابية، بما فيها القشرة الجبهية السفلى، «Inferior Frontal Gyrus»، والتلفيف الحزامي الأمامي ««Anterior Cingulate Gyrus.

أي أن الشعور بالجودة يبدأ من الإحساس بالأمان، لا من التجربة الفعلية. بهذا المعنى، يمكن القول إننا لا نشتري المنتج فقط، بل نشتري الطّمأنينة الاجتماعية التي يربطها الوجدان «ساحة الصراع والاختيار» بالعلامة المعروفة. ولهذا كان رأي أخي منطقيًا في سياقه: ليس تمسّكًا بالشكل، بل محاولة لا واعية لاختيار ما يمنح الإحساس بالثقة — إحساسٌ حقيقي بيولوجيًا قبل أن يكون سلوكًا استهلاكيًا.

لكن هذا الدماغ لديه حيلة أخرى، كما بيّنته أبحاث وولفرام شولتز في مفهوم: ”خطأ التنبؤ بالمكافأة «Reward Prediction Error»“ اختيار المألوف — حتى لو كان مؤلماً — يمنحنا وهم السيطرة المعرفية؛ فحين نختار ما نعرفه، نشعر بأننا نعرف ما سيحدث. وهذا الإحساس بالسيطرة يُطمئن الوجدان أكثر من المجهول الذي لا يمكن التنبؤ به، فيغدو نوعًا من التعزية العصبية، تشبه الإيحاء بالأمان.

لكن... إذا كان الدماغ وهم الطمأنينة حين نختار ما نعرفه، فهل يمكن أن نكتشف حقيقة أنفسنا ونحن نعيش داخل حدود ما يُطمئننا؟ أم أن الأمان ذاته هو أكثر الأوهام إغراءً؟

عندما يتحول الأمان المألوف إلى سجن

لو نظرنا إلى التقليد، لوجدنا أن كثيراً منا يشتريه لا لشيءٍ إلا لأنه يمنحنا إحساس الماركة الأصلية — نفس الطمأنينة، نفس الأمان، لمجرد أنه يُشبه ما نعرفه.

لكن هذا الفلتر البيولوجي الذي يقيِّم السلامة، هو نفسه الذي يوقعنا في أكبر فخ وجودي، حين نُطبّقه على العلاقات الإنسانية.

إذا كان الوجدان ينجذب للسيارة ذات ”الشعار المعروف“ لأنها تمنحه شعوراً بالأمان المعرفي، فهل نفعل الشيء نفسه في اختياراتنا للعلاقات؟

هنا تكمن المأساة العميقة: كثير منا ينجذب لا إرادياً إلى نمط معين من الشخصيات «المُسيئة أو النرجسية... إلخ» ليس حباً فيها، بل لأنها تمثل ”ماركة مألوفة“ في ذاكرتنا الوجدانية. فيتوهم أن هذا المجهول هو خطر، في حين يندفع نحو العلاقة المؤذية التي يعرف ”قواعد لعبتها“ تماماً، لأنها تفعّل في القشرة الجبهية الوسطى إحساساً زائفاً بـ ”أمان المعرفة“. وكأننا نختار القفص المألوف على حرية لا نعرف كيف نتصرف فيها.

الفلاسفة، منذ أفلاطون حتى كيركغارد، تحدّثوا عن هذا النوع من الأمان بوصفه راحة الوهم؛ راحةٌ تمنحنا اتساقًا ظاهريًا مع ذواتنا، لكنها تسلبنا فرصة اكتشاف جوهرنا الحقيقي.

وفي الرؤية الصوفية، يُقال إن الروح «النواة النورانية» لا تتطهّر إلا بالمرور في دوائرها حتى تفهم سرّها. فكل عودة إلى الوجع ليست سقوطًا، بل نداءٌ خفيّ يدعونا إلى التعرّف على الجزء الذي لم يشفَ بعد. الطريق إلى النور لا يبدأ من الأعلى، بل من عمق الظل الذي كنا نهرب منه.

وربما هنا تبدأ خاتمة الخاتمة...

وهأنذا الآن أكتب، وأسأل نفسي قبل أن أسأل العالم:

هل تكفي معرفتي لأتوقّف عن الدوران في الدائرة ذاتها؟

لقد كشف العلم سرّ الدوبامين الذي يكافئنا على الألم المألوف، وعرّفنا الفلاسفة على وهم الراحة الزائف، لكنّي أتساءل:

هل معرفة السبب تكفي لنقف تلك الوقفة الصارمة التي تشبه العلاج؟

أجدني أكرّر ذات النمط في كل شيء:

أتوقّف عن الرياضة ثم أعود، أبتعد عن الطعام غير الصحي لأعود إليه، وأتمسّك بعلاقاتٍ أعلم أنها تُؤذيني. كأن الوعي وحده لا يكفي، وكأن شيئًا في الداخل أقوى من المعرفة نفسها.

ربما نحتاج إلى قوّةٍ أعمق من الوعي، قوّةٍ ترفعنا من تحت الركام، وتمنح الروح شجاعةَ التخلّي عن المألوف حين يُقيّدها.

من يا تُرى يحدّد القاع الذي يجب أن أبلغه لأقول: كفى؟

هل أظلّ متمسّكةً بما أراه صوابًا لي —في تحدّي الماركة، في علاقة السلام التي لا أعرف قواعدها —أم أعود إلى ”الماركة“ القديمة التي تعرفها نفسي وتطمئن لها، حتى وإن كانت لا تشبهني بعد الآن؟

إنها رحلتي المستمرة، رحلة البحث عن ماركة الذات الحقيقية — سر الدوبامين تلك التي لا تُقاس بثمن.

كاتبة ومستشارة استراتيجية، تؤمن أن الوعي هو أول خطوة في بناء أي كيان ناجح، وأن ما لا يُفهم في الذات، لا يُصلح في المؤسسة